قضايا واقتراحات
1. تقديم :
1 .1 . عرف الفكر الأدبي العربي منذ بدايات الثمانينيات تحولا كبيرا سواء على مستوى مرجعياته أو طرائق تعامله مع النص الأدبي ، أو تفكيره في مجمل القضايا المتعلقة بالإبداع . وبرز ذلك بصورة جلية على صعيد لغته وما صارت تزخر به من حمولات تختلف عن اللغات السابقة . نجد أهم ملامح هذه التحولات الطارئة على صعيد اللغة من خلال :
ا. توظيف مصطلحات ومفاهيم عديدة وجديدة سواء من حيث بنيتها أو تركيبها أو دلالتها .
ب. إدراج الأشكال والتخطيطات والجداول ضمن التحليل .
ولا يمكن للقارئ ، أيا كان نوعه ، إلا أن يجد في أغلب الدراسات التي ظهرت منذ هذا الوقت ميلا واضحا نحو توظيف أكبر عدد من المصطلحات ، وقدر لا بأس به من الأشكال والخطاطات. ونجم عن هذا التحول الذي يتجلى للوهلة الأولى على صعيد اللغة ببعديها الاصطلاحي ( اللفظي) والتخطيطي ( الصوري ) أن وقع التسليم بصعوبة هذا المنحى النقدي الجديد لدى البعض ، أو التأكيد على لا جدواه عند البعض الآخر . وتوالت ردود الفعل المتهمة لهذا التوجه ، أو لقدرته على تحويل رؤية فكرنا الأدبي أو تجديد مساره .
1 . 2 . بدأت تتواتر الدراسات والترجمات ، رغم الصعوبات والعراقيل التي يصطدم بها أي جديد عادة ، وكثر المشتغلون في نطاق هذا التوجه النقدي الجديد . وهنا بدأت تتراكم المشاكل وتتفاقم الإشكالات ، إذ لم تبق الخلافات مقتصرة على الطرفين التقليديين : أنصار الحركة الجديدة وخصومها ، ولكنه امتد إلى الأنصار أنفسهم ، وبدأنا نعاين التناقضات تتعدى الاختلاف إلى الخلاف، وظهرت الكتابات المختلفة لتجسيد ذلك و التعبير عنه . وغدت إمكانية ملامسة هذا الخلاف في العدد الواحد من المجلة : فالمفاهيم والمصطلحات الموظفة ذات مرجعية واحدة، لكن الاختلاف بيِّن في استعمالها ، والخلاف صار متعددا بتعدد هؤلاء المشتغلين بها . وصار الجميع يستشعر فداحة الأمر ، وضرورة تجاوزه ، وإن ظلت السجالات حول هذه المصطلحات ترمي إلى تغليب بعضها أو الانتصار لها ضدا على البعض الآخر ، بناء على دواع ذاتية، أكثر مما هي مؤسسة على مقتضيات منهجية أو علمية حتى وإن كانت المبررات المقدمة تصدِّر الدعوى العلمية والمنهجية .
1 .3 . إننا فعلا أمام ضرورة ملحة وعاجلة للبحث في المصطلح الأدبي العربي الجديد . لقد ذهب ” لافوازييه ” وهو يتحدث عن المصطلحية الكيميائية إلى حد اعتبار أنه ” لا يمكن تطوير اللغة بدون تطوير العلم ، وكذلك لا يمكن تطوير العلم بدون تطوير اللغة ” [1]. وهو لا يقصد باللغة هنا غير المصطلحات الموظفة في العلوم . وتأتي هذه الضرورة من كوننا “نصطلح” على الاختلاف ، أكثر مما نتفق على “الاصطلاح ” . تضاربت الاستعمالات ، وتعددت بتعدد الدارسين والمترجمين حتى انتهت إلى الفوضى والتسيب . والغريب ليس في هذا الوضع فقط لأننا يمكن أن نبحث عن أسبابه وتجلياته، ولكن في أن القاعدة المتبعة عندنا هي أن كل من يبدأ يتعامل مع هذه المصطلحات لا يكلف نفسه عناء ممارسة الحوار أو النقاش، أو الاطلاع على من سبقه في المجال نفسه، ويقترح مصطلحات جديدة . ونجم عن ذلك أننا نتحدث عن ” شيء” واحد ، لكن بلغات لا حصر لها . لا يمكن لهذا الوضع أن يستمر إلى ما نهاية ، وإلا فلا فائدة يمكن أن ترجى من هذه الممارسة النقدية الجديدة . وعلينا في البداية تحديد أسباب هذا الوضع ، قبل الانتقال إلى تشخيصها وتقديم المقترحات الملائمة لتجاوزها .
1 . 4 . نجمل هذه الأسباب فيما يلي :
1 . 4 . 1 . إن المصطلحات الأدبية الجديدة التي نتعامل بها لسنا نحن الذين ننتجها . ومادام كل مشتغل بها يتعامل معها بطريقة مخالفة لغيره ، فلا يمكن إلا أن يفهمها بطريقته الخاصة ، ويقترح تبعا لذلك مقابلات تناسب أشكال فهمه واستيعابه لها .
1 . 4 . 2 . إن تلك المصطلحات التي يتم إنتاجها خارج مجالنا الثقافي العربي ، ليست واحدة ولا موحدة . إنها بدورها تختلف وتتعارض ، ويناقض بعضها البعض، كما أنها عرضة للتحول والتغير . ويقر الباحثون الغربيون أنفسهم بذلك وبصعوبة إنتاج المصطلحات وتوليدها أو الاتفاق بشأنها . ونجد تأكيدا لهذا فيما يعبر عنه ج . جنيت في مختلف كتاباته وخاصة عندما يصرح متضجرا بقوله : ” آن الأوان ليفرض علينا مفوض شرطة جمهورية الآداب مصطلحية متسقة ” .[2]
تختلف هذه المصطلحات ، من جهة ، باختلاف اللغات الأوروبية ، وتتعدد ، من جهة ثانية، بتعدد الإطارات النظرية والاتجاهات المتباينة . ولا بد من وضع ذلك في الاعتبار عندما نتعامل معها، لكن السائد في التصور عندنا أو على الأقل لدى أغلب المشتغلين ، أن تلك المصطلحات ” لغة أجنبية ” ، ويكفي أن نعربها أو نترجمها إلى اللغة العربية بالانطلاق من بعدها المعجمي لنكون بذلك قد قضينا الوطر المنشود.
هذان العاملان جوهريان في طبع استعمالنا الاصطلاحي بالسمات الاختلافية التي ننعت بها لغتنا النقدية الجديدة . إن الإنتاج الاصطلاحي الغربي مختلف في حد ذاته ، ونحن نتعامل معه وكأنه موحد . ويتولد عن هذا بالنسبة إلينا اختلاف في التصور والعمل ، وينجم عنه الخلاف الدائم . يتكرس هذا الخلاف عندما لا يتواصل المشتغلون بهذه المصطلحات ولا يتحاورون ، بل الأدهى من ذلك عندما لا يريد أي منهم أن يصغي لما قيل أو يسهم في النقاش بوعي ومسؤولية . أمام هذا الوضع يروح القارئ أولا ضحية كثرة الاستعمالات والاختلافات ، فترتبك بذلك عملية القراءة ، ولا يتحقق بعد هذا المراد الأكبر وهو تجديد فكرنا الأدبي ومعرفتنا النقدية وتطويرهما .
1 . 5 . لقد صار بإمكاننا الآن أن نتحدث عن ” المصطلح السردي العربي ” ، وهو يحتل مكانة مهمة ضمن المصطلحية الأدبية العربية الجديدة . لكن وضعه الحالي لا يمكن أن يستمر بالوتيرة التي يعرفها حاليا ، وإلا فإن مصيره هو معرفة المزيد من الخلاف والاختلاف الذي لا يسهم في التطور ولا في إغناء مجالنا الأدبي والنقدي . إن كل مبررات البداية الصعبة لم يبق ما يسوغ امتدادها واستمرارها ، وبالقليل من الحوار العميق والهادئ يمكننا بلورة المفاهيم ، وتدقيق المصطلحات وتوحيدها ، وهذا مطلب حيوي وضروري ، رغم أنه صعب ، لتجاوز كل التبعات السلبية التي تراكمت منذ البدايات الأولى لتداول وتوظيف هذه المصطلحات . ولكي أساهم في هذا الحوار أحاول أولا الانطلاق من معاينة طبيعة المصطلح السردي كما تبلور في الأدبيات الغربية الجديدة ، وأقف عند بعض الملامح التي صاحبت تشكله وتطوره وتشغيله ، لأنتقل بعد ذلك إلى رصد كيفيات تعاملنا مع هذه المصطلحات وطرائق فهمنا وتوظيفنا لها وما يعترض ذلك من عوائق وصعوبات ذاتية أو موضوعية لنتمكن من رؤيتها على النحو الملائم والعمل على تجاوزها تحذونا في ذلك رغبة الانتقال من وضع الاستهلاك إلى الإنتاج ، ومن الخلاف المجاني إلى الاختلاف الهادف والبناء .
2 . المصطلح الأدبي الحديث : أصول وتحولات :
2 . 1 . تميزت المصطلحية الأدبية منذ الستينيات من هذا القرن ( في أوربا عامة ، وفرنسا خاصة ) بالعديد من السمات التي جعلتها تختلف عما كانت عليه في القرن التاسع عشر مثلا وسواه من القرون . لقد كان جزء أساسي من رصيدها المعجمي يتشكل على نحو خاص مما تمدها به علوم أخرى ، وخاصة العلوم الإنسانية ( الاجتماع ـ النفس… ) ، والعلوم الحقة ، بحسب الموقع الطليعي الذي تحتله في سياق التطور التاريخي للعلوم ( خاصة علوم الأحياء والنبات ) . وفيما خلا ذلك كانت المصطلحية الأدبية تتأسس إجمالا على ماتقدمه لها البلاغة ، لكن هذه الأخيرة انتهت في العصور المتأخرة إلى التكرار والجمود، فصار توظيفها شحيحا وناقصا ، قبل أن يعاد النظر فيها وتجديدها في العقود الأخيرة .
ترتبط المصطلحية الأدبية ببعديها من البلاغة والعلوم الأخرى على نحو خاص، بالشعر والدراما تحت التأثير الشديد الذي مارسته ” بويطيقا ” أرسطو ، وظل ذلك متواصلا مع أعمال الشراح والبويطيقيين الكلاسيكيين . أما السرد بمختلف تجلياته ، فلم يكن يحظى بالمكانة الملائمة لوضعه الهامشي الذي كان عليه ، إلى أن ظهرت الرواية في أواخر القرن الثامن عشر، فبدأت تتبلور آراء واجتهادات الكتاب أنفسهم حول خصوصية وطبيعة هذا النوع الأدبي “الحديث” . ويظهر لنا ذلك بجلاء في المقدمات التي كتبها الروائيون ، والتي صار لبعضها وجودها الوازن في النقد الروائي ومصطلحيته ( هنري جيمس نموذجا ) .
2 . 2 . استمر هذا الوضع إلى غاية الستينيات ، وبقيت العلوم الاقتصادية والاجتماعية والنفسية تمارس دورها الكبير في تغذية المصطلح الأدبي ونحته وتوليده . ويكفي التدليل على ذلك بما عرفه النقد الأدبي تحت تأثير علوم القرن التاسع عشر ووضعيته مع ما كان يعرف ب ” النقد العلمي ” ، ودور النزعات الفلسفية والفكرية منذ بداية هذا القرن ، وخاصة مع الماركسية ومختلف تطويراتها الاشتراكية ، وعلم النفس التحليلي ومختلف تجلياته ، والوجودية ، ليظهر لنا إلى أي حد كانت اللغة النقدية محملة بمجمل ما تراكم في هذه العلوم ومصطلحاتها التي تم نقل بعضها وتوظيفه في الدراسة الأدبية : جدلية الشكل والمضمون، الرؤية الاجتماعية ، مقولات الوعي ، اللاشعور ، الالتزام ، الحرية ، البطل الإشكالي ، الواقع والواقعية ،،، وما شاكل هذا من المفاهيم والمصطلحات ذات الطبيعة الخاصة والقادمة من مجالات معرفية أخرى.
2 . 3 . تأسست المصطلحية الأدبية الجديدة في الستينيات تحت تأثير اللسانيات ، وذلك بالانطلاق من أن الأدب ” لغة ” ، وعلى الدرس الأدبي أن يتشكل على قاعدة البحث في ” اللغة الأدبية ” أو النص الأدبي من داخله . ومن هنا جاءت القطيعة مع المصطلحية التقليدية المشكلة خارج الأدب ، والملحقة به أو الموظفة عليه . وبذلك اعتبرت العلوم اللسانية أقرب العلوم إلى الدراسة الأدبية ، فاستلهمها الدراسون وحاولوا الاستفادة منها في معالجة النص الأدبي ، والكشف عن خصوصياته . وكان طبيعيا أن يظهر هذا التوجه الجديد في البحث والدراسة على المصطلحية الأدبية فنجدها تتخذ العديد من سمات وملامح المصطلحات التي تكونت في سياق البحث اللساني ، والتي تم تحويلها وتعديلها لتتلاءم مع خصوصية البحث الأدبي ، وذلك خلال الحقبة التي تعرف ب ” البنيوية ” . يظهر لنا ذلك بجلاء في هيمنة مصطلحات ومفاهيم مثل : الجملة ، الخطاب ، التركيب ، البنية ، الدلالة ، العلامة ، الدال ، المدلول ،،،
2 . 4 . لم يتم فقط استلهام المصطلحات اللسانية ، ولكن أيضا طريقة التحليل وأشكال الصياغة التي كانت اللسانيات تستفيد فيها من علوم عديدة ، فبرزت التخطيطات والأشكال الهندسية والرموزالرياضية والمنطقية ( العلامات الصورية ) لتحتل مكانتها باعتبارها جزءا من التحليل وتصبح مكونا من مكوناته الأساسية . ويعكس هذا التوجه ” العلمي ” الذي صارت تعتمده الدراسة الأدبية إسوة بالدراسات اللسانية . وفي هذا السياق تم ترهين كل التراث الأدبي المتصل بخصوصية الخطاب الأدبي في ذاته من حيث تركيبه ولغاته التي يتميز بها ، فأعيد بذلك النظر في الأدبيات القديمة مثل ” بويطيقا ” أرسطو ، والاجتهادات البلاغية المختلفة والدراسات التفسيرية للكتاب المقدس والتي تركز على اللغة والتعابير والأساليب ، وبدأت من ثمة تظهر محاولات لتجديد البويطيقا والبلاغة والدراسات الأسلوبية .
وكان من الضروري الرجوع إلى التراث الذي تركه الشكلانيون الروس في بدايات هذا القرن ، والذي كان له النزوع نفسه، وتجسد جزء أساسي منه في عطاءاتهم واجتهاداتهم في المضمار ذاته. وفي هذا السياق ، تبلورت السيميوطيقا كعلم خاص للعلامات المختلفة تمييزا لها عن اللسانيات التي تعنى بالعلامة اللسانية فقط ، وتقف عند حد الجملة . ومتحت بدورها من اللسانيات ، واهتمت في بداية أمرها بالعلامة الأدبية ، فولدت لها لغتها ومصطلحيتها الخاصة بها ، وسارت على نهجها وعملت على تطوير نفسها وهي تستفيد من إنجازات العلوم الحقة (الرياضيات ـ المنطق ـ الفيزياء ) والعلوم الإنسانية (الأنثروبولوجيا) …
3 . 3 . السرد والمصطلح السردي :
3 . 1 . في نطاق هذه التحولات التي عرفتها المصطلحية الأدبية الجديدة في الغرب كانت الرواية وسواها من الأنواع الحكائية قديمها وحديثها ( الحكاية العجيبة ـ الأسطورة ـ القصص القصيرة ) تحتل الصدارة باعتبارها مجالا للاستثمار وموضوعا للبحث . وظهرت علوم أدبية تهتم بصورة خاصة بالسرد ، نذكر من بينها : السرديات ، والسيميوطيقا الحكائية ، والبلاغة الجديدة، والأسلوبية ، ونظريات التلفظ ، والتداولية … تشتغل هذه العلوم مجتمعة بمصطلحية “شبه ” مُوحَّدة رغم الفروقات بينها، لأنها ترتبط بموضوع واحد هو ” السرد ” . لكن كل علم يعطي لكل مفهوم أو مصطلح دلالته الخاصة وفق النسق الذي ينتمي إليه . وتحضر من هنا تلك الفروقات والاختلافات في الاستعمال بالرغم من التشابهات الظاهرة .
3 . 2 . يمكننا في هذا النطاق إعطاء بعض الأمثلة الدالة على ذلك لإبراز ما يميز هذه المصطلحات عن بعضها البعض من خلال الوقوف على النقطتين التاليتين :
3 . 2 . 1 . الاشتراك اللفظي والاختلاف الاصطلاحي : نجد العديد من المصطلحات تشتـرك لفظا ، لكنها تختلف دلالة بحسب الإطار النظري الذي توظف في نطاقه . إن مصطلحات مثل الخطاب (Discours) والنص (Texte ) والصيغة (Mode ) والسرد والحكي ( Récit/Narration ) والسردية أو الحكائية (Narrativité ) والراوي (Narrateur ، وسواها مصطلحات) متداولة في كل النظريات والدراسات السردية الحديثة ، لكنها تختلف اختلافا بيّنا بين مستعمليها إلى حد التضارب والتعارض ، ويمكننا أن نلمس ذلك أحيانا عند الباحث الواحد. إن هذا لا يعني سوى مسألة طبيعية حين تتعلق بالمفردات أو المصطلحات وهي أنها جميعا متعددة المعاني . وهذا التعدد لايمكن أن يسلب إلا في السياق النظري الذي يعين المصطلح ، ويحدد دلالته الخاصة .
فهناك مثلا من يضع ” الخطاب ” مقابلا ل” النص ” . وهناك من يعتبره مرادفا له ، ويرى آخرون الخطاب أعم من النص ، وينطلق سواهم من العكس . ويمكن قول الشيء نفسه عن “الصيغة ” ( Mode) فهي عند النحويين والسرديين ليست هي ذاتها عند المناطقة والسيميوطيقيين ( Modalité ) رغم أنهم يستعملون الكلمة نفسها . وقس على هذا .
إن تشابه المفاهيم والمصطلحات لايعني أنها متماثلة دلاليا واصطلاحا ، لآن كل مصطلح يكتسب معناه وخصوصيته من السياق النظري الذي يوظف في نطاقه . وهنا مصدر التنوع والاختلاف .
3 . 2 . 2 . الاختلاف اللفظي والاشتراك الاصطلاحي : ونجـد بالمقابل مصطلحات عـديدة تختلف من حيث اللفظ ، لكنها تشترك اصطلاحا ، ولو في الإطار الدلالي العام عكس ما وقفنا عليه في النقطة السابقة . ويمكننا التمثيل لذلك بمصطلحات مثل : وجهة النظر ، والمنظور ، والرؤية ، والبؤرة ، والتبئير ،،، إن هذه المصطلحات تختلف من حيث اللفظ ، لكنها مجتمعة تشترك اصطلاحا . إنها جميعا تتصل بالموقع الذي يحتله الراوي من عالم الأحداث ، أو المادة الحكائية التي يتكلف بروايتها . ويمكننا إعطاء مثال شبيه من خلال مصطلحات مثل :” Fabula /Histoire /Diégèse/Récit / Contenu/ Intrique،،، ” فهذه المصطلحات تلتقي في كونها تتصل بمادة الحكي ، لكنها تستعمل في سياقات مختلفة ، وفي إطارات نظرية متباينة ، ويعود مصدر الاختلاف فيها إلى مايلي :
ا ) اختلاف الذين استعملوها لأول مرة ، أو أبدعوها دون أن يكون أي منهم مطلعا على عمل الآخر أو عدل عنه إلى غيره لاعتبار أو لآخر . لقد استعمل هنري جيمس مثلا في البداية مصطلح ” وجهة النظر ” ، لكن ج . بويون (1946 ) فضل مصطلح ” الرؤية ” . ومن أتى بعدهما اختار الأول أو الثاني ، أو اقترح مصطلحا آخر : المنظور أو التبئير ( ج. جنيت 1972) ويمكننا أن نعاين هذا أيضا من خلال استعمال الشكلانيين الروس في البداية مصطلح “Fabula ” كمقابل ل sujet لكن السرديين وهم يطورون إنجازات الشكلانيين السردية اقترحوا مصطلح ” القصة ” (Histoire) ليقابل “الخطاب “. وهم في هذا الاقتراح يسيرون على هدي التمييز الذي وظفه إ . بنفنست . وحين استعمل ج. جنيت مصطلح Diégèseالذي استقاه من إ.سوريو الذي وظفه في أواسط الأربعينيات (1946 ) ، فذلك ليعيد تأسيس نظرية الأجناس وفق الأصول التي اعتنت بها ، وكذلك ليولد من هذا المفهوم الكلاسيكي الذي وظف في البويطيقا الكلاسيكية مجموعة من الاستعمالات والتنويعات المتصلة بدور الراوي ووظيفته في علاقته بالمادة الحكائية . وظهرت بذلك مصطلحات محولة من قبيل : Intradiégètique/Extradiégètique/Homodiégètique… أما مفهوم “Contenu” الذي يستعمله السيميوطيقيون فهو يتصل بدوره بالمادة الحكائية ، ويوظف كمقابل ل” التعبير ” . وواضح هنا أن السيميوطيقيين ينطلقون في هذا التمييز من التطوير الذي أدخله ” يلمسليف ” على تحديد العلامة بجعله إياها تعبيرا ومحتوى وهو ما نجده في مصطلحية دوسوسير يقابل الدال والمدلول . ومقابل ذلك نجد ب. ريكور في مختلف كتاباته يفضل استعمال مفهوم ” Intrique” .
ب ) يبين لنا هذا الاختلاف بجلاء أن أي مفهوم أو مصطلح له تاريخه الخاص في النطاق النظري الذي يوظف فيه . ومصدر الاختلاف يئوب أساسا إلى محاولة تطويره لفظا ليتلاءم مع المتطلبات النظرية الجديدة التي يستدعيها التحليل . ونلمس ذلك بوضوح مع ج . جنيت وهو يفضل مصطلح التبئير ويبرر دواعي ذلك . ويأتي بعده من يطور المفهوم الجديد ويوظفه في سياق التحول الذي عرفته السرديات ( مثال ميك بال ) .
نعاين الأمر نفسه مع ” التناص ” الذي أدخلته كرستيفا إلى مجال الدراسات الأدبية بناء على تصورات باختين . لكن التعديلات التي عرفها هذا المصطلح ، وما تولد عنه من مصطلحات فرعية وموازية جعلت الانتقال من التناص كمفهوم جامع إلى مفهوم آخر جامع هو ” المتعاليات النصية ” مع ج. جنيت ، والتي غدا ” التناص ” جزءا واحدا منها ، يبرز لنا أننا أمام اختلافات لفظية واشتراكات اصطلاحية ، وداخلها جميعا نلمس تباينات وفروقات عامة وخاصة .
نستنتج من خلال هاتين النقطتين التي وقفنا عندهما أننا أمام السمات التالية التي يتسم بها أي مصطلح كيفما كان نوعه . هذه السمات تتصل من جهة بـطبيعة المصطلح ، ومن جهة ثانية ترتبط بـطريقة اشتغالـه .
3 . 3 . طبيعة المصطلح السردي : إن المصطلح السردي له طبيعته الخاصة التي يكتسبها من داخل الإطار النظري الذي ينتمي إليه ( السرديات ـ السيميوطيقا الحكائية ،،،) . قد تستعمل إطارات نظرية متعددة المصطلح نفسه ، لكن دلالته تختلف قطعا باختلاف ذلك الإطار. إن السيميوطيقا الحكائية مثلا تحدد موضوعها في “Narrativité ” . ونجد الشيء نفسه مع السرديات التي تعتبرالمصطلح عينه موضوعها ، وباستعمال اللفظ ذاته . لكن مدلول المصطلح مختلف تماما لآن طبيعة استعماله وتوظيفه تخص الإطار النظري الذي يشغله . كما أن هذه المصطلحات وهي تنتمي إلى إطارات نظرية مختلفة ، تشترك في الدلالة العامة ، لكنها مع ذلك ستظل تختلف جذريا ، ف” الراوي ” في السرديات يلتقي مع ” المرسل ” في السيميوطيقا أو ” المتكلم ” في نظرية التلفظ ، لكن دلالة هذه المصطلحات لاتتحقق إلا وفق المجال النظري الذي تنتظم فيه رغم أن طبيعة الفعل مشتركة ، وإن كانت تتخذ كامل أبعادها ووظائفها من الأدوار التي تضطلع بها في سياقاتها النظرية المختلفة .
3 . 4 . طريقة الاشتغال :
3 . 4 . 1 . إن دلالة المصطلح تتجسد في إطار الحقل الدلالي ، والشبكة النسقية التي ينتمي إليها . وبالنظر إلى المصطلح في إطاره النظري الخاص ، نجد أن المصطلحات متحولة ومتعددة الدلالات ، ومعنى ذلك أن لها تاريخـها الخاص بها . وبناء على هذا التحول ، تتغير لفظا ودلالة : إنها تنحو نحو الدقة والتحديد كلما ابتعدت عن زمان استخدامها الأول ( من وجهة النظر إلى التبئير مثلا ) . إن هذه التحولات تعطي للمصطلح الواحد إمكانات التعين المتعدد ، وتسمه بالاختلاف الدلالي ، وهو ينتقل في الزمان ، أو وهو يهاجر في المكان ( حال المصطلحات السردية وهي تنتقل إلى الحقل الاصطلاحي العربي ) ، حتى وإن ظل يحافظ على الدلالة الأساس التي يحملها منذ زمان تشكله الأول .
3 . 4 . 2 . تتحدد دلالة المصطلح نفسه إلى جانب الطابع التاريخي بناء على ” الموقع ” الذي يحتله في نسق الحقل الدلالي الذي ينتمي إليه ، أوالإطار النظري الذي يوجد في نطاقه . والمقصود بذلك أن لأي مصطلح موقعا خاصا في التراتبية النظرية، أو في بناء الإطار النظري . وهكذا نجد من المصطلحات ما هو ” جامع ” ، وتتولد عنه مصطلحات أخرى متضمنة في نسق المصطلح الجامع باعتبارها نتاج عملية التصنيف . وهذا التصنيف يجعل المصطلحات تتباين من حيث الدرجة ، وتختلف من حيث الموقع ، حتى وإن كانت تجتمع في علاقة الكل بالفرع ، لأن كل مصطلح يكتسب دلالته من جهة بحسب السياق ، وبحسب الموقع الذي يتحدد له ويكسبه دلالته الخاصة من جهة ثانية . ولإعطاء مثال على ذلك ، نأخذ مثال “الراوي ” Narrateur فهو مفهوم جامع ، أي أن له بعدا جنسيا Générique . وظف هذا المفهوم في التحليل السردي ليعوض مفهوم الكاتب في النقد ما قبل السردي . لكنه في نطاق التطور تعرض لكثير من التصنيفات التي قدمت لنا عددا هائلا من التسميات والأنواع المتصلة بالدور الذي يضطلع به في مختلف الحالات والأطوار التي يوجد عليها . فهو حين يكون شخصية من شخصيات العمل السردي يختلف عنه في حالة ما إذا كان غير مشارك في القصة … ولا يكفي تحديد هذا المصطلح فقط بناء على ” الاسم ” العام الذي يتسم به وهو خارج الموقع الذي يحتله في الحكي .
ويمكن قول الشيء نفسه عن ” العوامل ” (Les actants) في السيميوطيقا الحكائية : إنها تحتل موقعا من بناء النظرية ، ويصعب تحليلها مالم يتم تحديد موقعها الخاص من التحليل . أما النظر إليها باعتبارها خروجا عن مصطلح ” الشخصيات ” وتطويرا لها فليس سوى تبسيط نظري. وبدون تحديد ” البنية الأولية للدلالة ” لانكون ننظر في هذا المصطلح الجامع ( العامل) وما تتشكل منه البنية العاملية وما تستوعبه من ” عوامل ” لكل منها موقع خاص ، ودلالة خاصة …وكلما تطورت هذه المصطلحات اتخذت دلالات جديدة بناء على المقتضيات التي عرفتها في نطاق عملية التحول . إن للمصطلحات حياتها الخاصة ، وتاريخها الشخصي ، ومن ثمة دلالاتها الذاتية التي تتحدد وفق طبيعتها وطريقة تشغيلها ووظيفتها . ووفق هذا الأفق تتطور المصطلحات ، وتختلف استعمالا ودلالة . تتصل هذه القضايا مجتمعة بالنسبة إلى هذه المصطلحات وهي تتحرك في فضائها الثقافي والمعرفي التي تشكلت في نطاقه . أما عندما تتحول إلى أي فضاء آخر ، فلا يمكن للمشاكل إلا أن تتفاقم وتزداد، وخاصة عندما لا يكون الوعي بها حاضرا ، والعمل على تجاوزها واردا .
عندما نكون ، نحن العرب ، في وضع استقبال هذه المصطلحات ونقلها إلى لغتنا واستعمالنا النقدي ، فإننا لاننقل فقط كلمات، ولكن علاوة على ذلك ، مفاهيم مثقلة بحمولات تاريخية ومعرفية واستعمالية . وكل هذه الحمولات لا يمكنها إلا أن تفرض علينا أمريات جسيمة للتعامل مع المصطلحات واستعمالها بطريقة حيوية وإبداعية ، وذلك ما نود البحث فيه من خلال الوقوف على وضعية ” المصطلح السردي العربي ” .
4 . 4 . المصطلح السردي العربي وقضاياه :
4 . 1 . لقد عرفت المصطلحية السردية العربية تحولا مهما منذ بداية الثمانينيات . وما حققته لا يمكن أن يقاس بكل ما تراكم خلال عقود طويلة من الاهتمام بالشعر وتحليله . وهذا مظهر إيجابي لا يمكننا إلا أن نسجله هنا باهتمام ، لأنه يفرض علينا العمل على بلورته وتطويره . تزايد عدد المشتغلين العرب حاليا بالتحليل السردي وبترجمة الدراسات السردية الغربية . ولا يكاد يوازيه سوى التزايد الهائل الذي يعرفه الإبداع السردي عموما وما يحققه من إنجازات مهمة . وإذا أردنا أن نحدد مجال هؤلاء المشتغلين بالسرد ، فإننا نجده يتحقق من خلال :
4 .1 . 1 . مجال الترجمة : هناك عدد لا يستهان به من الكتاب والباحثين يبرز لنا دوره في العمل السردي بصورة خاصة من خلال الترجمة . وتتعلق عملية الترجمة بنقل مقالات أو كتب غربية ( من الفرنسية أو الإنجليزية ) حول السرد سواء كانت هذه الدراسات ذات طبيعة تنظيرية أو تطبيقية .
4 .1 . 2 . مجال الدراسة : وبالمقابل نجد بعضا آخر من المشتغلين بالسرد يهتم خاصة بتحليل النصوص العربية قديمها أو حديثها ، مستفيدا من الدراسات السردية الغربية في إحدى لغاتها الأصلية أو مترجمة إلى العربية . وهو في ذلك يلجأ بين الفينة والأخرى إلى ترجمة شواهد من تلك النظريات ، وخاصة في الحالة الأولى .
إن عملية الاستفادة من النظريات السردية الغربية أمر ضروري وحيوي ، ولا يمكن الاعتراض عليه أيا كانت الدواعي والأسباب . وهي حين تتحقق بصورة عامة عن طريق الترجمة فإن مشاكل عديدة تتولد عن عملية الترجمة أو التعريب . ويهمنا في هذا النطاق إبراز التمايز بين المترجم والدارس في علاقتهما معا بالفعل الذي يجمع بينهما . فالأول يهمه حل مشكلة ” المصطلحات ” التي تعترضه وهو يقوم بعملية الترجمة ، فيقترح المقابلات بناء على نوع العمل الذي يزاوله . وتغدو المصطلحات بالنسبة إليه تماما كالمفردات اللغوية التي تبهم عليه ، ويستعصي عليه إدراكها ، فيستعين عليها بما تسعفه به قواميس اللغة الأصلية أو القواميس المزدوجة ( المنهل ـ المورد …) ، و” يجتهد ” في اقتراح المقابل ” المناسب ” . وهو بذلك يتوهم أنه بحل المشكل المعجمي بنوع من ” الأمانة ” يكون قد حل المشكل الاصطلاحي . وكل مترجم يشتغل بصورة أو بأخرى وفق هذه الطريقة . أما الدارس فليس الذي يعنيه هو حل مشكلة معجمية . إنه يتعامل مع ” مصطلحات ” وهي تشتغل أو توظف وفق نسق معين . قد يستأنس بدوره بالمعاجم اللغوية ، لكنه لا يجد ضالته عادة فيما تمده به من تعابير وصيغ . لذلك فهو مدعو إلى البحث عن وسيلة ملائمة في توليد المصطلح بما يتناسب ودلالته في سياقاته النظرية المتعددة التي يوظف فيها . ويتطلب منه ذلك فهم طبيعة المصطلح وكيفية تشكله وإيحاءاته المتعددة التي يمكن أن يوحي بها في استعمالات عامة وخاصة . كما أنه في الوقت نفسه مطالب بتقديم المقابل العربي الملائم وفق قواعد الصياغة العربية وصرفها ودلالاتها وحقولها المعرفية المتعددة . وفي كل الحالات يستدعي هذا العمل ليس فقط المعرفة باللغة ، ولكن علاوة على ذلك المعرفة السردية وشروط تحققها وتطورها ومجالاتها المختلفة .
4 . 2 . المعرفة السردية :
4 . 2 .1. إن أول مشكل يعترض تعاملنا مع المصطلحات ونحن نمارس الترجمة أو التحليل ليس هو كيف ” نعرِّب ” هذه المصطلحات ، أو كيف نتفق على ” توحيدها ” . هذا المشكل على ضخامته وأهميته البعيدة يظل ، في رأيي ، جزئيا وفي مرتبة ثانية . إذ لايمكن البتة تعريب المصطلح أو توحيد استعماله ونحن لانعرفه حق الفهم . وعدم إيلائنا ” المعرفةالسردية ” ما تستحق من العناية قد يجعلنا أحيانا ” نتفق ” على بعض المصطلحات ونستعملها جميعا ، ولكننا نؤمن أنها خاطئة أو غير سليمة ، ونصبح بعد مرور الزمان عندما تتدقق معرفتنا بها ، نسلم باستعمالها على المبدأ العرفي القاضي بـ ” أن الخطأ الذائع أخير من الصواب المهجور”.
لقد سبق لي [3] أن تحدثت عن المصطلح السردي العربي ، وأظهرت أننا نستعمل بعض المصطلحات بالانطلاق من شائع الاستعمال بدون تدقيق أو تفريق . وأعطيت مثال “Narrativité”. إننا نترجمها بـ ” السردية ” من جذر ( س.ر.د ) في العربية و ” Narration ” في الفرنسية مثلا. لكن تبين لي أن هذا المصطلح يستعمل في مجالين سرديين مختلفين ، وكل مجال يعطيه دلالة تنسجم وأطروحته الأساسية . فاقترحت للمصطلح مقابلين مختلفين ، ونوظف كلا منهما بحسب السياق الذي يوظف فيه على هذا النحو :
Narrativité
1.السردية : عندما نكون في مجال ” السرديات ” ، وكل مايتصل بها من مصطلحات يتم ربطه بها مثل : الصوت السردي ، الرؤية السردية ، صيغة السرد ، البنيات السردية …
2. الحكائية : عندما نكون في مجال ” السيميوطيقا ” ، وكل ما يرتبط بها ننعته بها ، فنستعمل : سيميوطيقا الحكي ، البرنامج الحكائي ، المسار الحكائي ، البنيات الحكائية ،،،
إننا من خلال هذا التمييز بين السردية والحكائية كمقابل ل ” Narrativité” لانفاضل بين كلمة وأخرى كما يعمل من يتوهم أنه يناقش قضايا المصطلح ، ولكننا نضع لكل مصطلح ( حتى وإن كان المصطلح في لغته الأصلية واحدا من حيث اللفظ ) مقابله وفق الإطار النظري الذي ينتمي إليه . وفي هذا العمل الذي نقترح لا ندقق فقط استعمال المصطلح بناء على خلفية معرفية محددة ، ولكننا أيضا نعمم ذلك على الشبكة الاصطلاحية التي تتصل به : أي كل المصطلحات التي تدور في فلك المصطلح المركز . وبذلك يمكننا للتأكيد ترجمة النعت (Narratif ) مرة ب” السردي” ومرة ب” الحكائي ” حسب الإطار والسياق . أما من يحاسب الناس على أنهم يترجمون المصطلح الواحد بمصطلحات متعددة فلا يراعي هذه القاعدة لأنه يتعامل مع المصطلحات تعاملا لغويا وحرفيا لا اصطلاحيا [4] .
4 . 2 . 2 . يساهم غياب الاهتمام أو الوعي بالمعرفة السردية في التباس تعريب المصطلحات وتوظيفها ويجعلنا نتعامل معها بصفتها كلمات لا مدلول خاص لها . ويتولد على ذلك عدم إمكانية التطوير والإغناء . إن عملية ترجمة المصطلحات ليست فقط عملية لغوية تكفي فيها القاعدة الذهبية التي تقضي بأن يكون المترجم ملما باللغتين المنقول منها والمنقول إليها . فعلاوة على ذلك لا بد من امتلاك “المعرفة ” باللغة الاصطلاحية وإدراك خصوصيتها وفق الاختصاص الذي تشغَّل في نطاقه . ويفرض هذا على المترجم أن يكون مختصا في المجال الذي يمارس فيه الترجمة . وللأسف الشديد ، ونحن هنا نسجل واقعا ، يشتغل بالترجمة عندنا أشخاص لاعلاقة لهم بالاختصاص السردي ، أو سواه . ويبدو ذلك بجلاء في كون المترجم العربي ، عموما ، يشتغل اليوم بترجمة مقال في موضوع ، وغدا في آخر لا علاقة له بسابقه . وقلما نجد مترجما مختصا في حقل بعينه ، أو متفرغا للعمل بنسق باحث أو حركة سردية ، وينقل بين الفينة والأخرى ما ينتج فيها .
إن ما يحكم عمل ” المترجم ” أو ” الدراس ” ، بصورة عامة ، هو طابع الانتقاء والانتقال الدائم من حقل إلى آخر ، ومن نظرية إلى غيرها . ومهما كانت دراية المشتغل فلا يمكنها إلا أن تقصر عما يتحقق في مختلف النظريات السردية ، وما تعرفه من تطور دائم ومستمر ومتواصل . ويبدو لي أن عدم إعطاء ” المعرفة السردية ” ما تستحق من العناية يعود أساسا إلى :
ا ) غياب الاختصاص المركزي في ممارستنا . وأتعجب ممن يقول مثلا إن تخصصه هو “النقد الأدبي ” ؟ !. قد يكون النقد ممارسة ينهض بها ، لكن الحديث عن التخصص في النقد لا يمكن أن يكون سوى تتبع المدارس والاتجاهات أو مزاولة تدريس النقد . أما التخصص فيكون في مجال اختصاصي خاص .
ب ) عدم مواكبة المستجدات في الاختصاص السردي الواحد والمحدد ، ومعرفة مختلف التحولات والتطورات التي يعرفها . ويعني هذا استحالة المواكبة لمختلف الاختصاصات السردية وما تراكمه باطراد من تصورات وأدبيات يشترك الباحثون هنا وهناك في إضافتها .
هذان العاملان لا يمكن إلا أن يؤثرا سلبا على طريقة تعاملنا مع السرد ومختلف نظرياته سواء من حيث الفهم والاستيعاب ، من جهة ، ومن حيث مردودية ذلك على صعيدي التحليل والترجمة في مرتبة ثانية . وكما أتعجب ممن يتحدث عن كونه متخصصا في النقد الأدبي لا يمكنني إلا أن أتعجب ممن يتحدث عن ” وجهة النظر ” في أواخر القرن العشرين وهو يزعم أنه ” حداثي ” أو بنيوي أو ما شئنا من التسميات التي نرسلها باعتباط وادعاء شديدين . رغم أن هذا المفهوم ينتمي إلى ماقبل تبلور النظريات السردية . قد يطول بنا الحديث حول المصطلح السردي العربي ، ولكن بدون الانطلاق من ” المعرفة السردية ” باعتبارها أرضية ، وممارسة الحوار والنقاش في نطاقها لا يمكن لكلامنا عن المصطلح ” النقدي ” وأزمته كما يحلو للبعض أن يفعل إلا يكون كلاما انفعاليا ، ورغم وجاهته يظل بمنأى عن ملامسة الأبعاد الجوهرية للمشكلة .
4 . 3 . الإبداع السردي : يتصل الإبداع السردي كما أتصوره بالمعرفة السردية اتصال لزوم. وأقصد به عملية الإبداع في تقديم المصطلح العربي في المجال السردي . قد يلجأ المترجم إلى وضع المقابلات كما تمليه عليه معاجم اللغة ، أو كما يتوهم أو يقتنع . لكن المحلل أو الدارس له شأن آخر مع المصطلحات التي يتعامل بها حتى وإن كان يستفيد في نحتها أو توليدها من النظريات التي يتعامل معها . وحريته الإبداعية تقتضيها درجة معرفته السردية من جهة ، وطريقة تشخيصه للمشكلات ، واقتراح الحلول التي يراها مناسبة للغة العربية التي يكتب بها . وأرى أن الإبداع السردي يتحقق بجلاء بناء على توفره على المستلزمات التالية :
4 . 3 . 1 . ” جمالية ” المصطلح المقترح ، والمقصود بها أن يكون سهلا ، ويسير النطق ، وتستسيغه الأذن بسهولة . وتبرز جماليته أيضا في إيجازه ما أمكن وقبوله الإضافة والنسبة بدون أن يؤثر ذلك على بنائه أو صيغته . وأضرب مثالا للمصطلح المستهجن لاعتبارات يضيق عنها المجال المصطلح الذي وظفه أ. لوقا وسايره فيه محمد خير البقاعي [5] وهو “المضطلع ” كمقابل ل ( Actant ) . هذا المصطلح يأتي ليعوض استعمالا شائعا في النقد السردي العربي وهو “العامل ” الذي أرى أنه أجمل وأدق . لنتصور المترجم يتحدث عن “نظرية المضطلعين ” وعن ” المضطلع الذات ” ؟ وعن ” المضطلع المؤتي ” ؟ الذي يستعمل كمقابل ل ” العامل المرسل ” . وقس على ذلك بقية الاستعمالات ، ولنتساءل بما يمكن أن توحي به مثل هذه المقابلات ” المؤتي ” ؟ و ” المؤاتى ” ؟ لنجد أنفسنا أمام محاولة للتميز ، وتجاوز الاستعمالات الموجودة جحودا ونكرانا . ولا أجد لذلك أي مبررلغوي أو معرفي ، رغم الادعاءات …
4 . 3 . 2 . ” طواعية ” المصطلح وارتباطه باللغة العربية سواء من حيث الصيغة أو الوزن. لقد شاعت في استعمالاتنا الاصطلاحية إضافة بعض اللواحق كما نجدها في بعض اللغات الأروبية مثل (éme ) وصرنا نرى أنفسنا أمام ” صوتم ” و “معنم ” ،،، وما شاكل هذا من الروابط التي تخل باللغة وسلامتها وجمالها . إن مثل هذه الاستعمالات لا يمكن البتة أن توحي إلى القارئ بما تعنيه تلك اللواحق وقد أقحمت في اللغة العربية وكأنها جزء منها .
4 . 3 . 3 . أصالة المصطلح وعروبته ، ويستلزم هذا الاحتكاك باللغة المصطلحية العربية الإسلامية وترهينها بما يتواءم واللغة الاصطلاحية الجديدة . وفي هذا النطاق نرى أن الإنتاج الاصطلاحي الغربي مؤسس في شق مهم منه على ما تمده به اللغات القديمة مثل اليونانية واللاتينية . فنحن نترجم (Séme ) أحيانا ب ” السيمات ” وأحيانا أخرى ب ” السمات ” في حين نجد الفلاسفة العرب القدامى كانوا يتحدثون عن ” المقومات ” وهي مفهوم دال على الخصوصيات التي يحملها المفهوم الغربي وحين استعمل محمد مفتاح [6]هذا المفهوم ، ووظفه كان بذلك يربط الماضي بالحاضر ، ويرهن المصطلحات العربية ذات الملاءمة التي نفتقدها في العديد من المقابلات المستهجنة . ونفس الشئ نقوله مثلا عن ” الجهة ” (المصطلح العربي القديم) التي نضعها كمقابل ل “Aspect ” التي يترجمها البعض جهلا باللغة وبدلالة المفهوم الاصطلاحية ترجمة حرفية ويضع لها مقابلا هو ” المظهر ” . وأمثلة هذا كثيرة ، ويضيق عنها المجال .
إنني حين أشدد على ما يتصل بأصالة المصطلح وجماليته وطواعيته ، وهناك مبادئ عديدة يمكن الوقوف عندها ، أريد التنبيه إلى أن البعد الاصطلاحي يتصل اتصالا وثيقا بالتواصل . إن اللغة الاصطلاحية لغة خاصة ، ويجب أن تتوفر فيها كل مقومات الاستعمال اللغوي ، وإلا انتفت ضرورتها . وإلى جانب البعد التواصلي هناك الجانب المعرفي الذي بدون الانطلاق منه لايمكننا أن نتفاهم أو نتواصل أو نطور معرفتنا بتطوير لغتنا . وعندما ينتفي أي منهما ينتفي المقصود ، ولا يتحقق المراد . وإذا كانت هناك مشاكل عديدة ، وعراقيل لاحصر تعترض عملية نقل المفاهيم وتعريبها ( وهي في رأيي عادية وطبيعية ) من جهة ، وإذا كان جزء أساسي منها يتصل بطبيعة المصطلحات ، ومحدودية الاجتهادات ( رغم أنه لا يمكننا إلا أن نثمنها ) ، من جهة ثانية ، فإن أم المشاكل تكمن في طرائق العمل التي نمارسها ، وأشكال تعاملنا مع النظريات التي تنتقل إلينا ونستقبلها، ونحاول ترجمتها ، أو تشغيلها أو تطبيقها كما يقول البعض متهكما أو متندرا . وأرى أن هذا المشكل الجوهري يكمن في كوننا نتعامل مع النظريات التي لاننتج تعاملا غير إنتاجي . ولا يعني هذا سوى أننا نظل دائما في موقع المستهلك ، وينصب جزء أساسي من سجالنا على كيفية ممارسة الاستهلاك ، ومن يستهلك منا أحسن من غيره …هذه الذهنية التي نتعامل بها هي ما أروم الوقوف عندها ، وتحليلها من خلال النقطة الأخيرة والمتعلقة بالاقتراحات .
5 . اقتراحات :
5 . 1 . عندما يتحدث بعض الباحثين العرب عن أزمة المصطلح ، وينبرون لمواجهتها ويقدمون مقترحاتهم البديلة ، ينسون أنهم في واقع الأمر يساهمون في تعميق الأزمة لا حلها . إن مشكلة المصطلح ليست مشكلة لغوية محضة ( إحلال مقابل لمفهوم أجنبي ، أو المفاضلة بين المقابلات الجارية ) ، رغم أن أساسها لغوي . إن البعد المحوري للمصطلح يتمثل في جانبه المعرفي. ونحن لاننتج هذه المعرفة . نتلقاها ، ونريد أن نستوعبها ، لنتمكن من الإبداع والإضافة . هذا هو الرهان الذي يمكن أن يوجه عملنا ، وإلا بقينا أسارى الاجترار والاستهلاك. في هذه الحال كيف يمكن التعامل مع المصطلح المعرب أو المترجم ، أو المولد أو ماشئنا من المصطلحات التي نوظف في ممارستنا الحالية ؟ جوابا على هذا السؤال أرى أن من مستلزمات ذلك :
5 . 1 . 1 . إعطاء الجانب المعرفي ما يستحق من العناية في تصورنا وعملنا . إن تأجيل هذه الأسبقية لا يمكن إلا أن يجعل من ” الإنتاج المعرفي ” عندنا ثانويا ، وغير ذي قيمة . وأسجل هنا أننا ما نزال لانعطي البعد المعرفي مايستحق من الاهتمام.
5 . 1 . 2 . يستدعي إعطاء الأولوية للبعد المعرفي الإيمان بالتخصص في مجال الدراسة الأدبية وسواها . إذ لايمكن ” إنتاج المعرفة ” عن طريق استبعاد التخصص وممارسة عمل “حاطب الليل ” : الانتقال بين النظريات المتعددة والمتداخلة ، وعدم التمييز بينها للأسباب العديدة المتصلة بطبيعتها وظروف تشكلها .
إننا بدون إعطاء المعرفة والتخصص العلمي ما يستحقان من العناية سواء على صعيد الوعي أو الممارسة لا يمكننا أن نتطور أبدا في مختلف الأعمال التي نشتغل بها ، ونتساجل أو نتحاور بشانها .
5. 2 . إذا كانت المعرفة والتخصص العلمي ضروريان لتطوير ممارستنا ، فإن ذلك رهين تطوير طرائق اشتغالنا وتعاملنا . والمقصود بذلك إيلاء العمل الجماعي ما يستحق من الاهتمام، قولا وفعلا ، لأن طريقة عملنا المركزية ما تزال تستند على المجهودات الفردية ، وعلى قسط كبير من حب الذات وإنكار الآخر . ولا يمكن الاهتمام بالمعرفة والتخصص بدون الإيمان والاعتراف بمجهودات الآخرين .
إن الشروع في ممارسة العمل الجماعي ، والتفكير في الوسائط والقنوات التي تيسر هذا العمل بات ضرورة ملحة ومستعجلة. وذلك لأن أشكال ممارسة هذا العمل التقليدية لم يبق ما يسوغ استمرارها ، وعلى الجامعات والمعاهد العربية أن تضطلع بها العمل بناء على رؤية مغايرة ، وفهم جديد .
إن مشاكل المصطلح واختلافنا بصدده ليس مشكلا حقيقيا . فالاختلاف وارد أبدا ، ولنا في ما يعرفه واقع الدراسات السردية الغربية ما يدعم وجهة نظرنا . لكن القدرة على تجاوز هذه المشاكل عن طريق الوعي الجوهري بها وبمحدداتها العميقة هوما لا نلامسه في أحاديثنا وسجالاتنا . إنها مشاكل تتصل بواقع فكرنا الأدبي وطريقة تفكيرنا فيها . وكلما نجحنا في الإمساك بجوهر هذه المشاكل ، أمكننا تأسيس ممارسة جديدة بناء على وعي جديد ، واستشرافا لآفاق جديدة وبعيدة . وهذا هو المسلك الذي علينا نهجه لنفكر في كبريات مشاكلنا بحيوية وآمال عريضة ، وواثقة من نفسها وإمكاناتها ،،،
[1] . N. Lozac’H ,Chimie.La Nomenclature,in.Encyclopedie Universalis,1996,T.5,P.484
[2] G. Genette, Palimpsestes, Seuils, 1982, P. 7.
[3] . س. يقطين : نظريات السرد وموضوعها :في المصطلح السردي ، مجلة علامات (مكناس) ع. 6 س. 1996 .
[4] . قام بهذا الصنيع المترجم محمد خير البقاعي عندما أشار في مقالة له حول أزمة المصطلح النقدي عندما ” استغرب ” من أن ” التداخل المصطلحي عند باحث واحد في كتاب واحد يعطي فكرة عن الفوضى التي تشيع في النقد الروائي العربي ” . مفاد التداخل عنده هو أني أستعمل لمصطلح واحد مقابلات عديدة مثل : Discours الذي أضع له مرة مقابل ” الخطاب ” ومرة ” الكلام ” . لكن خير البقاعي لم ينتبه إلى الفروق بين استعمال اللسانيين والنحويين للكلمة حين يتحدثون عن ” أقسام أو أجزاء الكلام ” وعلماء الأدب وهم يتحدثون عن الخطاب باعتباره أعلى من الجملة . انظر مقالته ” أزمة المصطلح في النقد الروائي العربي ،مجلة الفكر العربي ، شتاء 1996، ع.83 ، س.17 ص.83 “.
[5] . محمد خير البقاعي ، مرجع مذكور ، 82 .
[6] . محمد مفتاح ، تحليل الخطاب الشعري : استراتيجية التناص ، المركز الثقافي العربي ، بيروت / الدار البيضاء ، 1987 ، ص . 67