( أو السرديات كما أتصورها )
سعيد يقطين
0. تقديم :
0 . 1 . تتحكم في أعمال أي مشتغل بالأدب تصورات تتشكل لديه انطلاقا من فهمه وتأويله للظاهرة التي يهتم بها ويبحث فيها . هذه التصورات قد تكون واضحة أو كامنة بالنسبة إليه ، والمقصود بذلك أنه واع بها تمام الوعي ، ويضعها في الاعتبار في كل عمل يشتغل به . كما أنها قد تكون عند البعض الآخر فيالنص خلفيته المعرفية وهو ينطلق في اشتغاله بالأدب من جاهز ما يتكون لديه من معارف يستحضرها بعفوية في عمله ، أو بحسب شكل تعامله مع الأدبيوالمشتغلين فتقوده في عمليات التحليل والتأويل . ويمكننا ، انطلاقا من درجة الوعي بهذه التصورات وكيفية ممارستها ، التمييز بين المهتمين بالأدب به . بالنسبة إلي ، تحكمت في فهمي للأدب وتحليلي للنص الأدبي ثلاث خلفيات ، وتتجسد في تصوري له ثلاثة مقاصد .
0 . 2 . تشكلت لدي هذه الخلفيات والمقاصد في منتصف السبعينيات بناء على متابعاتي لمختلف الكتابات النقدية العربية ، وقراءاتي المتعددة للأدبيات الأجنبية في مضمار الدراسات الأدبية والعلوم الإنسانية . وهي التي قادتني في مختلف كتاباتي إلى صياغة مجموعة من القضايا ، ومحاولة التطور في الجواب عنها من خلال كل أعمالي ، والعمل على التقدم في بلورتها على النحو الأمثل .
1. الخلفية الأولى : الطبيعة والوظيفة :
1 .1 . لايمكن لأي مشتغل بأي حقل معرفي أو غيره أن يفكر أو ينتج خارج السياق الثقافي الذي يوجد فيه ، أو بمنأى عما تمور به الساحة الثقافية التي يعيش في زخمها . انتهيت بعد معايشة ليست بالقصيرة لتطورات الإبداع والفكر الأدبيين في العالم العربي إلى أننا نسلم بالعلاقة الجدلية بين الشكل والمضمون في نقاشاتنا الشفوية ، وعندما نتحدث عن الأدب نظريا . لكننا عندما نكتب عن الأعمال الأدبية ، كان التركيز ينصب على المضامين وعلى انتماء الكاتب الاجتماعي أو وعيه الطبقي . لقد كان الصراع السياسي والإيديولوجي خلال السبعينيات على أشده . وكنت أتساءل مع نفسي : هل نحن نحلل النص الأدبي أم أننا نحاكمه سياسيا ؟ وكنت أرى أن الكاتب الذي يشاطرنا الإيديولوجية نفسها ، ننتصر لإبداعه، وإن كنا نحس بقصور في تجربته الإبداعية ، ونمارس العكس عندما يتعلق الأمر بمبدع حقيقي ، ولكننا نختلف معه .
1 . 2 . هكذا كانت الممارسة عندنا . لكني بالمقابل كنت أُجِلّ ما يذهب ماركس عندما يتحدث بإعجاب عن بلزاك . فأرى البون شاسعا بين مانفكر فيه وما نمارس . كما عاينت كيف نتعامل مع الأفكار تعاملا اختزاليا وإسقاطيا ، سواء في السياسة أو الأدب . وقررت الاختيار، اختيار الدفاع عن الفن الحقيقي ، ورفض الزائف منه مهما كان الشعار الذي يرفعه صاحبه . ومن هنا جاء موقفي من التطبيقات الميكانيكية للماركسية أو للواقعية الاشتراكية أو للبنيوية التكوينية باعتبارها تطويرا لها . وما أزال إلى الآن أكن تقديرا كبيرا للوكاش وغولدمان ، وأرى أن المثقفين العرب اختزلاهما اختزالا فظيعا ، وفهماهما فهما مخلا ، وأن فكر لوكاش وغولدمان سيظل قابلا للاستثمار في أي وقت إذا ما أحسن التعامل معهما .
لقد دفعني هذا الموقف إلى الاهتمام بالإنجازات البنيوية لأنها تصر على العناية بالشكل، وهو ما كان ينقص تفكيرنا الأدبي ، ولم نراكم فيه أي تراث يذكر. وأذكر أنني عندما أصدرت كتاب ” القراءة والتجربة ” ( 1985 ) ، كتب عنه بأنه ممارسة لـِ ” الحياد ” النقدي ، لأنه يهتم بالشكل والتقنيات الروائية ، ولا يهتم بالمحتوى الإيديولوجي للرواية . لم أبال بهذا النقد لأن من كتبه لم يكن منتميا ، كما أن من كانوا يروجون لمثل هذه الدعوى عن هذا الكتاب لم يكونوا أكثر يسارية مني .
1 . 3 . كان المبدأ الذي وصلت إليه هو أننا نستبق إلى التفسير وإلى الحكم وإلى التأويل ، لكننا عاجزون عن الفهم . هذا المبدأ بدا لي قابلا للتطبيق على كل ممارساتنا وأشكال وعينا ، وفي كل المجالات . من السهولة بمكان أن ” نفسر ” الأشياء ، وحتى قبل الاطلاع عليها . وفعلا كنت أرى أننا نحكم على الكتاب الأدبي أوغيره ، ونصادره انطلاقا من المعرفة بصاحبه وانتمائه أو عدمه . وأتعجب من هذه المصادرات المسبقة ، والأفكار الجاهزة التي توجهنا إلى الاهتمام ليس بما يكتب ، ولكن بالكاتب وانتمائه الفكري والإيديولوجي .
هذا هو الوعي الذي كان يتحكم في وعينا السياسي والأدبي . ومنذ البداية كنت ضد هذا الوعي ، وما أزال . وتبعا لذلك آمنت ، على الصعيد الأدبي ، أن علينا أن ننطلق أولا مما يميز الأدب عن غيره من الخطابات . وما يميز الخطاب الأدبي نجده كامنا في طبيعته ، وليس في وظيفته . إنه في الوظيفة يلتقي مع خطابات أخرى . وعلينا أن نفهم هذه الطبيعة ، ونركز عليها في قراءتنا للنص الأدبي ، وأن نصل إلى الوظيفة انطلاقا من فهم طبيعته . ومعنى ذلك أن علينا أن ننتقل من الفهم إلى التفسير ، وأن ننتقل من ” قراءة ” الكاتب إلى قراءة النص .( وهذا ماحاولت ممارسته في كتابي ” تحليل الخطاب الروائي (1989) ” و ” انفتاح النـص الروائي( 1989) ” ، حيث جعلت الأول مكرسا لتحليل تقنيات الرواية بالتركيز على بنياتها، وفي الثاني انطلقت إلى معالجة دلالات الرواية العربية بعد الهزيمة في ضوء ماتوصلت إليه من خلاصات في تحليل تلك البنيات ) . ولممارسة “الفهم” الملائم، لابد من توفير العدة المناسبة لذلك . ومن هنا جاء اهتمامي بالبنيوية ، والدخول إلى عوالمها ، تأملا واستقراء واستيعابا ، وإلى تجاربها الغنية والمتنوعة . وهكذا كانت الخلفية الأولى .
2. الخلفية الثانية : من هو الناقد الأدبي ؟
2 . 1 . كان هذا السؤال يفرض نفسه علي بإلحاح في سياق المناخ الذي رصدناه في الخلفية الأولى . أهو السياسي ذو الميولات الأدبية والثقافية ؟ أم هو المثقف ذو الانتماء السياسي ؟ إنه بصورة أو بأخرى مزيج منهما معا . وكان هذا النمط من النقاد هو السائد ، وكانت علاقته بالنص الأدبي علاقة مثقف سياسي بالدرجة الأولى . ويبرز هذا بجلاء في كونه ينطلق من تصور جاهز عن النص ، ويمارسه بصدد القصيدة والقصة والرواية والمسرحية، دون أن نلمس أي فروق تتصل بالجنس أو النوع الأدبي ، أو خصوصية كل منهما . فهناك رؤية مأساوية ، وطبقات اجتماعية وبورجوازية صغيرة ،،، وحين ينبري للشكل تراه يقول بأن هذه الشخصية ترمز إلى ، وتلك الصورة تدل على ،،، أو ماشاكل هذا . ومعنى ذلك أن النص الأدبي بالنسبة لهذا التصور ليس سوى ذريعة ، يقول من خلاله الناقد مايقال في التحليل السياسي بوجه عام .
2 . 2 . كان السؤال نفسه يطرح علي بصدد الناقد العربي الذي ينطلق من البنيوية التكوينية، هل هو ناقد أدبي ؟ أم سوسيولوجي يشتغل بالأدب ؟ ونفس الشيء بالنسبة للمشتغل بعلم النفس . ووجدت الجواب عن مثل هذه الأسئلة واضحا لدى الشكلانيين الروس الذين دعوا إلى ميلاد علم خاص بالأدب ، مادامت العلوم التي يشتغل بها دارسو الأدب لاعلاقة صميمية لها بالأدب . وفي هذا السياق، اقتنعت بانتقاد البنيويين لمختلف الاتجاهات الأدبية والنقدية الخارجية ، والتي تخدم تلك الاتجاهات التي تنطلق منها في معالجة الظاهرة الأدبية أكثر مما تخدم الأدب أو الفكر الأدبي . وظهر لي أن “الناقد” العربي لامجال محدد يشتغل فيه . فهو يكتب في الأدب تماما يكتب في موضوعات غير أدبية . إنه مثقف بالمعنى الواسع للكلمة ، يتفرغ للكتابة في الأدب . والأدب بالنسبة إليه واجهة للنضال أكثر مما هو خطاب يدرسه من حيث هو أولا ، بأدوات وتصورات خاصة لمراكمة معرفة فنية وجمالية . ومن حيث هو ، ثانيا ، يتصل بغيره من الخطابات بعلاقات ووشائج شتى .
2 . 3 . إن صورة عمل ” الناقد” المحدد الهوية ، والمشتغل وفق أفق دقيق ، كان يشكل بالنسبة إلي هاجسا مركزيا ، وأنا أهتم بالنص الأدبي العربي . وتحديد هوية ” الناقد ” كان يمثل الخلفية الثانية بالنسبة إلي وأنا أشتغل بالأدب ، لأنه بدون هذا التحديد يمكن أن أكون أي شيء (مفكر ، باحث في أي اختصاص ، سوسيولوجي ، عالم نفس ،،،) لكن أن أكون ” ناقدا ” فلا بد من توفير العدة الملائمة لعمل الناقد ، وهو بمعنى من المعاني ، من له الكفاية والقدرة أكثر من غيره على الحديث عن الأدب من حيث طبيعته وخصوصيته ، وليس انطلاقا من العموميات التي يعرفها كل قراء الأدب أو المهتمين به ، لاعتبار أو لآخر . وفي هذا النطاق كان يصعب علي وفق هذا التصور أن أشير إلى مشتغل بالأدب عندنا بأنه ناقد أدبي إلا بتجاوز كبير .
3 . الخلفية الثالثة : المعرفة الأدبية :
3 . 1 . تتصل الخلفية الثالثة بالمعرفة التي ينهل منها المشتغل بالأدب العربي . إن التمايز القائم بين ” الحديث ” و”القديم ” في تقاليدنا النقدية الحديثة ، لم يكن مؤسسا على قاعدة صلبة ، أو على تراث أصيل يرتهن إليه في التقويم والتقييم . فالنقد المسمى تقليديا لم تكن له هوية حقيقية، فهو مزيج من الأدبيات البلاغية العربية القديمة ، وما انتهى إلى النقد العربي منذ عصر النهضة عن طريق التأثر بالمدارس النقدية التي كانت سائدة في القرن الماضي في أوربا . ويبرز لنا هذا جليا في كون النقد القديم لم يجدد ، ولم يطور . وعندما أقدمت الاتجاهات التحديثية مع طه حسين مثلا على طرح أسئلة جديدة عن الأدب العربي نجدها بقيت معلقة ، ولم يتم الحسم فيها ، أو الاشتغال في ضوئها ، وبقي التعايش مع العديد من أمشاج النظريات التي جاءت عن طريق الاستفادة من الغرب . ولم يحصل تطويرها ، أو طرح أسئلة بصددها . وعندما تم استلهام النظريات الحديثة (علم اجتماع الأدب ، البنيوية التكوينية ،،،) وقع تباين في التصور والاشتغال ، وتعمق ذلك أكثر مع ظهور البنيوية في النقد العربي .
3 . 2 . إن النقد العربي منذ أن تم تجديده في عصر النهضة كانت علاقته ، بصفة عامة ، مع التراث النقدي العربي ، ومع النظريات الغربية ، علاقة استهلاك ، ومحاكاة ، لاعلاقة تفاعل وإبداع . وما السجالات التي تتم عندنا بين ” القديم ” و”الحديث ” سوى مظهر من مظاهر تلك العلاقة . قد يتهم كل طرف الآخر ، لكن كلا منهما عاجز عن إنتاج خطاب نقدي متميز، من خلال تفاعله مع التراث أو مع الغرب .
3 . 3 . لم نول ” النظرية الأدبية ” ماتستحق من العناية في مجال انشغالنا بالأدب . ولهذا السبب لم نراكم معارف يمكننا تطويرها أو تعديلها مع الزمان . ونجد الدليل على ذلك في أننا في كل “حقبة أدبية ” ، أمام إبدال جديد لايتأسس على ما تحقق لدينا ، أواستدعاه وجوب التطور لدواع وأسباب داخلية معينة ، وإنما أمام إبدالات تنتهي إلينا مما يتحقق في الغرب . فيكون الاختزال والتسرع والإسقاط . ويمكن قول الشيء نفسه عن علاقتنا بالتراث النقدي العربي ، إذ ليست هناك قراءات تجديدية وتطويرية . وإذا ما كانت هناك قراءات من هذا النوع ، وهي موجودة ، فإنه لايتم الالتفات إليها أوالاهتمام بها حوارا ومناقشة . ويؤدي هذا الوضع بصفة مجملة إلى إبقاء معرفتنا الأدبية دون إمكانات واقع الحال العربي ، وما يزخر به من إبداعات وإنتاجات مهمة .
لقد انتهيت إلى هذا التقييم بعد اطلاع واسع على العديد من التجارب النقدية العربية ومواكبة للعديد من الأعمال وحضور العديد من الملتقيات والمؤتمرات . وظهر لي أننا لانعطي قيمة كبرى ” للمعرفة ” الأدبية ، ونعتبر البحث النظري ، ومواكبة المستجدات الغربية ضربا من الجفاء ” العلمي ” والبحث المنطقي . وكأننا بطريقة ضمنية ، نعتبر البحث الأدبي “انطباعا” عن النص الأدبي . ويكفي أن نصوغ هذا الانطباع بلغة جميلة ، ليكون مانقوم به عملا نقديا . ويبدو لي أن هذا التصور هو المتحكم بوجه أو بآخر في تصورنا للنقد الأدبي ، و هو الذي يحدد فهمنا لعمل الناقد الأدبي .
3 . 4 . قادتني هذه الخلفيات الثلاثة إلى اتخاذ مواقف من الوعي والممارسة النقديين العربيين . وبالمقابل حددت لي أفقا مغايرا للعمل كما يمكنني تجسيد ذلك من خلال هذه المقاصد التي كانت حاضرة في وعيي واشتغالي بالنص الأدبي العربي ، وكنت أحيانا أشير إليها صراحة أو أومئ إليها ضمنا . هذه المقاصد هي على الشكل التالي:
4 . المقصد الأول : الشكل الأدبي :
4 . 1 . انصب جهدي أولا على متابعة المجهودات النقدية الغربية الجديدة المختلفة ، وكنت أتعامل معها بكثير من التأمل والتدقيق . ودفعني هذا إلى التمييز بين مختلف هذه الاجتهادات ، وكان يهمني أن أتـوقف على مميزات كل اتجاه وما يختلف به عن غيره لأنني كنت أرى أننا نتحدث عن البنيوية وكأنها شيء واحد . ومن هنا جاء اهتمامي بالأعمال البويطيقية التي كان يشتغل بها جيرار جنيت وتودوروف عندما كان معه في إطار مجلة ” بويطيقا ” ، لأني رأيت أن البويطيقا امتداد لعمل الشكلانيين الروس وتطوير لأعمالهم من جهة ، ولأن أعمالهم جميعا تنصب على ” الشكل ” أو ” الخطاب ” . لم أهتم بأعمال المشتغلين بالدلالة مثلا مثل السميوطيقيين لأن مسألة الدلالة لم تكن تعنيني وقتها . وتابعت مختلف الاجتهادات التي سارت على النحو نفسه في الدراسات الأنجلوأمريكية وهي تهتم بتقنيات الرواية أو بلاغتها أو الأسلوب،،، وكل أعمالي تبين ذلك .
4 . 2 . إن التمييز الذي كنت أضعه أبدا نصب عيني هو أننا مطالبون بالفهم قبل التفسير . وعلى الفهم أن يتأسس على قاعدة الانطلاق من النص ، وليس من معرفتنا العامة والجاهزة عنه . وكنت أرى أن مرحلة التفسير أساسية ولا يمكن الوقوف عند مرحلة الوصف أبدا . ولهذا منذ البداية وجدت نفسي أميل إلى التمييزات الثلاثية للحكي التي كان ينطلق منها الأنجلو أمريكيون.أما الدراسات الفرنسية فكانت تقف عند حدود التقسيم الثنائي . ويبدو ذلك في تمييزي الدائم بين السرديات الحصرية والتوسيعية ، لأني كنت أضع الاهتمام ب” الخطاب ” في مرحلة أولى ، لأنه هو موئل ” خصوصية ” العمل الأدبي . وانطلاقا من هذا التصور كان الهدف الأساس بالنسبة إلي في ما يتصل بالدرس الأدبي العربي أن يتوجه نحو الاهتمام ب” الشكل ” ، وكلما حققنا تراكمات في هذا السبيل أمكننا الانتقال إلى مرحلة أعلى من البحث المفتوح على الوظائف والدلالات … وما زلت أشتغل وفق هذا المسعى ، وإن كنت أتطور فيه بشكل حثيث .
5 . المقصد الثاني : التخصص العلمي :
5 . 1 . جوابا عن السؤال المتعلق بهوية الناقد ، وتجاوز ثنائية الطبيعة والوظيفة ، ومشكلة المعرفة الأدبية ن ظهر لي ان المدخل الطبيعي لذلك هو العمل وفق ” تخصص ” علمي محدد في مجال الدراس الأدبية . وما دمت أشتغل في أفق بويطيقي يتصل ب ” الخطاب الأدبي ” ، فقد اخترت ضمن ذلك ” السرديات ” باعتبارها علما يعنى بالسرد . ورغم أن بداية اشتغالي بالرواية ، فقد ظهر لي أن السرد يحتل حيزا مهما في تراثنا ، وأنه لم يتم التعامل معه لهيمنة الشعر في تقاليدنا . ومن هنا توجهت انشغالاتي نحو الاهتمام بالسرد العربي قديمه وحديثه . ورغم تعدد الاتجاهات السردية ، فقد اخترت ما ينسجم والتصور الأدبي المحدد أعلاه . وتبعا لما سجلته عن التقسيم الثلاثي للعمل السردي ، فقد رايت ضرورة البحث في الخطاب والنص ، والمادة الحكائية . ولما كان السرد منفتحا على مختلف أشكال العلامات انتهيت غىل أن السرد يمكن أن يتحول إلى جنس يساعدنا على معاينة مختلف التجليات التي يبرز من خلالها . وقداني هذا إلى طرح أسئلة تتعلق بالجنس في ” الكلام ” العربي لأن مختلف الأدبيات العربية في مضمار ” نظرية الأجناس ” ظلت بصورة أو بأخرى تستعيد الآراء الغربية بدون إعادة تلنظر في تشكلات الأنجناس والأنواع في ثقافتنا . ويبرز ذلك بجلاء في كتاب ” الكلام والخبر ” الذي جعلته مقدمة للبحث في السرد العربي .
5 . 2 . إن الإيمان بالتخصص العلمي المحدد في معالجة النص الأدبي هو المدخل الملائم لتشكيل فكر أدبي عربي . وبدون الاختصاص لا يمكننا الحديث عن المشتغل بالأدب إلا تجاوزا. وأرى تبعا لذلك أن مشكلة النقد الشعري العربي ، رغم أن التراث النقدي والبلاغي العربي واسع في هذا المضمار، تكمن في كونه لم يسلم بضرورة الانطلاق من تصور علمي لتحليل الشعر . ومن ثمة ظل مجال البحث فيه مفتوحا على مصراعيه لكل من يرى نفسه مؤهلا للحديث عنه ، حتى وإن كانت تعوزه أبسط المعرف المتعلقة ب ” خصوصية” العمل الشعري . وفي المجال الذي تخصصت فيه ( السرد عموما ) أجد أن هذا التخصص يمكنني من التطور في مراكمة الأجوبة عن الإشكالات التي أطرح . ولو كنت أشتغل بالشعر، والدراما ،،، لكان مجال كتاباتي مختلفا عما هي عليه الآن . وكلما تطورت في تناول مسألة ما ، أجدني منفتحا على الاحتمالات التي تفرضها علي المادة التي أشتغل بها. لقد سمح لي هذا بالانتقال من الرواية إلى السرد القديم ، ومنه إلى طرح مسائل تتعلق بالأجناس ، وأفكر الآن في قضايا تتعلق بتاريخ الأشكال السردية العربية . كما أن البحث في السرديات من جهة الخطاب دفعني باتخاذ السيرة الشعبية موضوعا للبحث ، إلى التفكير في سرديات لمادة الحكائية ، وسرديات للنص ، وفرض علي أن أجعل السرديات منفتحة على علوم إنسانية أخرى مثل السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا . وأفكر الآن في إمكان تأسيس سريات اجتماعية ( وهي التي كنت قد سميتها في انفتاح النص الروائي 1989 بالسوسيوسرديات ) ، وذلك بتطوير ما قدمته في انفتاح النص الروائي ، والسرديات الأنثروبوجية التي تعنى بقضايا تتعلق بالبنيات الذهنية انطلاقا من الاشتغال بالسرد العربي…
5 .3 . يسمح لنا التخصص المحدد بمحاصرة الموضوع ، والتطور في معالجته تدريجيا . ومنذ أن بدأت أشتغل في القراءة والتجربة ، كان يوجهني هاجس مركزي ، وهو إمكان الحديث مستقبلا عن ” سرديات عربية ” ، وأنا إلى الآن ما زلت أشتغل وفق هذا الهاجس . وعندما ننجح في إقامة لبنات أساسية للتخصص الأدبي الخاص ، يمكننا ” الانفتاح” على العلوم الأخرى القريبة والبعيدة ، لا تطبيق إجراءات تلك العلوم على النص الأدبي . وبذلك نتجاوز وضعية هيمنت على نقدنا طويلا وهي المتمثلة في اقتراض إجراءات ومصطلحات علمية خرج أدبية ، وتطبيقها على الأدب ، الشيء الذي كان يفرض علينا تبعات تلك العلوم ، ولا يمكننا من النظر إلى الظاهرة الأدبية في خصوصيتها .
6 . المقصد الثالث : التفاعل الإيجابي :
6 . 1 . يتصل هذا المقصد بضرورة تجاوز مرحلة الاستيعاب ونقل النظريات الغربية كما يرتبط عندي بتجاوز النظرة التقديسية للتراث ، والتعامل معه بمرونة وحيوية إبداعية قصد تحقيق التفاعل بصورة إيجابية ، وفتح المجال أمام إمكانية إنتاج المعرفة الأدبية . إن تحقيق هذا التفاعل المنشود وليد الرغبة في تجاوز ثنائية التراث ـ الغرب من جهة ، وتجاوز الرؤيات المسبقة والجاهزة للممارسة النقدية من جهة أخرى .
6 . 2 . إن تجاوز ثنائية التراث ـ الغرب ، يعطينا إمكانية النظر في الإنجازات المعرفية المخنلفة باعتبارها إنسانية تتعدى أي إقليمية محددة . وبالنسبة إلينا العرب ، لايمكننا حتى وإن حاولنا الانسلاخ عن تراثنا أن ننتهي إلى ذلك . إنه جزء من التكوين والنشأة والممارسة . ولكن المشكلة الكبرى تكمن في علاقتنا بفكر الآخر ، الذي نصادره بشتى الذرائع الواهية . وعندما تتاح لنا ضرورة الإيمان بالبحث العلمي في مجال الأدب ، يتم تجاوز تلك النظرة التقليدية الموغلة في القول بخصوصية خادعة ، ويكون ذلك هو المدخل الملائم للمساهمة في الفكر الأدبي الإنساني . أما الانعزال ن فلا يمكن أن يؤدي إلا إلى المزيد من الاجترار لآراء القدماء بوهم الأصالة والانتماء ، ويمكن قول الشيء نفسه عن علاقتنا بالغرب ، إذا لم تتطور وتنتقل من وضع الاستهلاك إلى الإنتاج . كما أن تجاوز الرؤيات الجاهزة في الوعي والممارسة النقديين هو الكفيل باحتمال تغيير رؤيتنا إلى الإبداع من حيث طبيعته ووظيفته . ولا بد في تقديري من الارتقاء إلى هذا التصور بقصد تجاوز الحيث الساذج والبسيط عن ” نظرية ” نقدية عربية إلى احتمال المساهمة الإيجابية في الفكر الأدبي بوجه عام .
7 . تركيب :
تلك باقتضاب وإيجاز أهم الخلفيات والمقاصد التي أعمل وفقها في أعمالي السردية المختلفة . وهي حين تنطلق من اتخاذ الموقف من ممارسة ووعي موجودين ، فإنها ترمي إلى تفكير وممارسة مغايرين من خلال البحث والدرس . إن تطور الدرس الأدبي العربي رهين الأخذ بالمنظور العلمي في معالجة النص الأدبي . وهذا ما حاولت ممارسته من خلال انطلاقي من ” السرديات ” موضوعا للتخصص والبحث . كما أن اعتماد السرديات منطلقا لايعني استسهال الأمر ، وتطبيق المنجزات على النص العربي ، لابد من الاستفادة من روح تلك النظريات والعمل وفق متطلبات الأسئلة التي يفرضها علينا واقعنا الأدبي والإبداعي .
كما أن ذلك يحتم علينا الرجوع إلى التراث العربي وإعادة التفكير فيه بأدوات وتصور جديدين . إنه بدون تجديد رؤية النص العربي قديمه وحديثه ، وبدون تطوير أدواتنا وأسئلتنا النقدية والعلمية لايمكننا أبدا تجاوز الوضع الذي يعيشه واقعنا الفكري والنقدي ، وهو بالمناسبة جزء من فكرنا السياسي والاجتماعي والثقافي . وإذا ما ساهم المشتغلون بالأدب في بلورة رؤية جديدة لمعالجة موضوعهم ، يمكن لمساهمتهم أن تكون طليعية ، وتدفع بالمشتغلين في حقول أخرى إلى ذلك . نستشعر جميعا ضرورة تجديد فكرنا ووعينا لمواجهة التحديات المختلفة التي تحيط بنا ، وعلينا أن نساهم في التفكير الجماعي في ذلك ولكن بناء على تأسيس تصورات تنسجم وخصوصية الموضوعات التي ننشغل بها . وكلما تطورنا في ذلك أمكن لأعمالنا أن تتقارب وتتكامل وتصب جميعا في مجرى واحد : مجرى التقدم والتطور .
سعيد يقطين