حديث الصباح / جريدة الصباح 8 غشت 2012
صار أي كان، يرى نفسه مؤهلا لتأسيس حزب أو يكون رئيسا لحزب.
سعيد يقطين
أصارحكم في البداية أني لا أعرف عدد الأحزاب المغربية. ولو أنني شاركت في برنامج “أسئلة للبطل” عن أسماء أمناء الكثير من الأحزاب المغربية، لكانت نتيجتي مثل حصيلة الرجاء أمام البارصا. وأذكر هذا لأني بالمناسبة رجاوي عتيق ولا يزال حبي للشياطين الخضر ممتدا منذ أن ضبط الغيادي يبحث عن كرينبوش في سطاد دونور.
ليست عدم معرفتي بعدد الأحزاب وأمنائها نابعة من بلادة في الذهن أو كسل عن البحث. ولكني أرى أن هذه المعرفة غير مجدية، ولن تقدم شيئا يتصل بمعرفتي بالواقع الذي أعيش فيه. فليس هناك اختلاف بينها، وبينهم، شي زايد، شي ناقص، وبحال بحال. والسبب في ذلك يعود إلى تحول كبير في مجرى الحياة السياسية المغربية، جعل الأمور تبدو مختلفة تماما بين الأمس واليوم. لا يتعلق الأمر هنا بحنين إلى الماضي، ولكن بقيمة الأشياء منظورا إليها في ذاتها وفي زمانها وفي علاقاتها. وهذه القيمة حين تتحول نحو الأسوأ، وكان بالإمكان تجنب ذلك، لا يبقى للأمر مذاق، وتتساوى القيم، فلا تكون هناك قيمة لمعرفة هذا أو تمييزه عن ذاك، وهم في الهواء، سواء.
أذكر وأنا صغير أن أسماء لعلال الفاسي وبلحسن الوزاني والمحجوب بن الصديق والمهدي بن بركة وعبد الله إبراهيم ولنظرائهم كان لها رنين خاص، مدَوّ، يملأ الأذن والذاكرة والمتخيل. كنت أسمع من الأقارب والجيران الذين تابعوا احتفالات فاتح ماي، جملا، بل فقرات بكاملها يرددونها من خطب بن الصديق، وبحماس وتدفق وعفوية، بل وبمحاكاة لثغته. وكانت الصور التي نراها لعلال الفاسي في مختلف أزيائه الوطنية والعصرية، تجعلنا نراه بطلا لا يختلف عن أبطال السير الشعبية، وعن باقي رموز السياسة في أواخر الستينيات وبدايات السبعينيات في العالم أجمع. ويمكن قول الشيء نفسه عن بقية الأسماء التي ذكرت. كنا نتعرف عليها ونحن لما ندخل المدرسة، ونظل نسمع عن مواقفها وشجاعتها السياسية وصدقها وحب الناس لها، واعتقاداتها في رمزيتها. بل إن حبهم لها يتسرب إلينا، ونحن لا نعرف إلى أين تقودنا خطانا.
ومع التطور، وقدرتنا على التمييز والتفريق، واصطفافاتنا المتباينة، نظل نحمل لتلك الشخصيات حبا خاصا رغم أننا صرنا قادرين على استيعاب أشياء كثيرة تتصل بتاريخها. لكن اختلافنا معها، أو مع بعضها، واسمحوا لي أن أستعمل هنا ضمير المتكلم، جعلني أرى أن كل تلك الشخصيات، بما لها وما عليها، شخصيات وطنية، وذات قيمة رمزية في تاريخنا الحديث، وعلينا أن نحسن تقديرها لما قامت به من جليل الأعمال، وما قدمته من تضحيات جسيمة من أجل بناء المغرب الذي نمرح فيه الآن.
كان هؤلاء زعماء، وليسوا فقط رؤساء أحزاب. بل إنهم كانوا رؤساء أحزاب لأنهم كانوا زعماء. الرئيس ـ الزعيم أولا شخصية ثقافية وطنية وسياسية. له رؤية اجتماعية واقتصادية خاصة، ومنهجية في ممارسة التأطير والتنظير وتدبير الاختلاف. ولذلك كانت لكل واحد من أولئك شخصية متميزة. يشتركون في المقومات القيادية الأساسية، لكن كل واحد منهم يترجمها وفق مرجعية محددة، ورؤية مستقبلية خاصة. ولذلك كانت لكل واحد منهم لغته الخاصة، بمفرداتها وصيغها ومصطلحاتها. ويكفي أن تقرأ الأجيال الجديدة الآن “النقد الذاتي” (وكل مؤلفات الفاسي الدينية والفكرية والأدبية) و”صمود وسط الإعصار” و”مذكرات” الوزاني ليظهر لها ذلك بجلاء. كان همهم الأساس خدمة الوطن والارتقاء به إلى مصاف الدول المتطورة. لذلك لم يكونوا يتحرجون من الصدع بمواقفهم مهما كان ثمنها. ويكفي أن نتذكر قولة بوعبيد وهو يرى أن “السجن أحب إليه”، وفعلا يقاد مع رفاقه إلى السجن.
منذ أواخر الثمانينيات وبدايات التسعينيات تغيرت الأمور، وبدأت تزول بالتدريج صورة الزعيم ـ الرئيس ولا سيما بعد أن صارت الأحزاب تنبت كالفطر، وصار أي كان يرى نفسه مؤهلا لتأسيس حزب أو يكون رئيسا للحزب، فبدأت تتلاشى تلك الصورة، ولم تبق غير الظلال. صار التنافس على رئاسة الحزب لا يعني سوى شيء واحد: ضمان مقعد في البرلمان، واحتمال الوزارة. ولقد أدى ذلك، إلى تزايد الأحزاب، والانشقاقات. مرة رأيت بأم عيني، في لقطة تلفزية، وزيرا يبكي بدموع حرَّى إثر عدم نجاحه في “الصعود” إلى البرلمان. كانت الدموع حقيقية ، فسبحت الله متعجبا من تأثره البالغ لأنه سوف لا يبقى في الموقع الذي يؤهله لخدمة الوطن والتضحية من أجله. وقلت في نفسي: هذه هي الوطنية وإلا فلا؟ وإن من الحب ما يُبكي. وليس فقط ما قتل؟
بعد الربيع العربي، وحتى قبيله، بدأت تستعد الأحزاب لعقد مؤتمراتها. وككل المؤتمرات السابقة، لم تبق الاختلافات التاريخية داخل هذه الأحزاب، بسبب البرامج أو آليات التنظيم، أو كيفية تدبير المرحلة القادمة: فهذه القضايا لم تبق تثير أي نقاش. فالخلاف ليس فكريا ولا تنظيميا، فهناك إجماع لا نظير له حول هذه القضايا؟ ولكن الخلاف الأكبر: من سيكون الرئيس؟
لم يبق هذا الخلاف داخل الأحزاب فقط، بل حتى داخل اتحاد الكتاب والنقابات والجمعيات،،، ولحسم هذا الخلاف، لا بد من إدخال العار، والمزاوكَة والتعوريط،،، وإذا لم تنفع هذه اللغة ليكن الصعود إلى الجبل، وأعلى ما في خيلك اركبه، والتجييش وكسب النصير ولغة الكواليس والتآمر،،،. وبما أنه لا بد من الخروج في النهاية بنتيجة، سيكون ثمة رئيس؟ يقولون : أمين عام للحزب؟ لست أدري على من سيكون هذا أمينا ومؤتمنا ؟
ترى كيف سيكون حزب ما قادرا على الانخراط في الحياة العامة، بوجهه الأحمر، بعد معركة طويلة وطاحنة من أجل فرز الرئيس؟ وكيف يمكن جبر الأضرار النفسية والاجتماعية والوطنية (داخل الحزب وخارجه) الناجمة عن تلك المعارك التي قسمت “المنخرطين”، ولا أقول المناضلين، إلى طوائف وفرق؟ وهل يمكن نسيان لغات القدح والتجريح وهتك الأسرار المتبادلة من أجل ترجيح الكفة لهذا الطرف أو ذاك؟ لو كانت تلك الخلافات ذات طبيعة فكرية وسياسية لاعتبرنا هذا ظاهرة صحية، ولقلنا: نعم الاختلاف، والذي ينجح في الإقناع حول مشروعه المجتمعي أولى بأن يكون الأمين العام، وعلى الذين لم يفز تصورهم البرنامجي أن يرضخوا للأغلبية، وليمارسوا اختلافهم داخل الحزب. لكن أن تكون الاختلافات ذات طبيعة “شخصية”، فلا يمكن لهذا سوى أن يقدم صورة سيئة عن السياسة والأحزاب في بلادنا، ويدعم التصورات التي تقلل من شأن المجتمع السياسي ببلادنا، وتدفع إلى عدم الاهتمام به أو بذل الجهد لمعرفته أو الثقة فيه.
ماذا يضير التلفزة المغربية أن تقيم مناظرة بين المرشحين لقيادة حزب ما، وتقتطع لهم ساعة أو ساعة ونصف من أجل التحاور والإقناع؟ إن شأن أي حزب لا يهم المنخرطين فيه فقط، بل يهم كل المغاربة، وبذلك تتربى الأجيال الصاعدة على معرفة الفاعلين السياسيين في الوطن. وبناء على تلك المناظرة، يتم تصويت المناضلين على من يرونه أهلا لقيادة الحزب. ويتم الحسم بشكل ديموقراطي وعلني يمكِّن الحزب من تعرف المغاربة عليه وعلى أمينه العام بمنتهى الشفافية والوضوح. أما الأساليب الملتوية لحسم الخلافات باللجوء إلى التراضي والتوافق فلا يمكنها إلا أن تخفي التناقضات وتجعلها هدنة على دَخَن وجماعة على أقذاء؟.
ما معنى أن تكون أمينا عاما للحزب في مغرب القرن الحادي والعشرين؟ سؤال يستأهل من المجتمع السياسي المغربي أن يجيب عليه بوضوح وجرأة، وإلا فإنه لا ينتظرنا غير المزيد من التردي وعدم الاكتراث بمطابخ الأحزاب وما تقترحه من وصفات لا أحد يهتم بمعرفتها، أو يفكر في شم رائحتها؟ǃ