حديث الصباح / جريدة الصباح 1 غشت 2012
كان لظهور الجرائد المستقلة دوره في تجاوز الإعلام الحزبي والحكومي
سعيد يقطين
ليس كل ما يؤتى من فقيه فتوى. ولا كل ما يصدر عن صحافي خبرا. كما أنه ليس كل ما يقوم به محام دفاعا. فالدفاع حين لا يكون عن الحق والعدالة سمسرة. والخبر حين لا يكون صادقا افتراء وفتنة. والفتوى حين لا تكون لفائدة المسلمين بهتان وبدعة. ويشهد زماننا انتشار البدع والفتن والسمسرة. وكلها مظاهر أزمة في المجتمع، ودليل على فوضى القيم، وتسيب في التعامل مع الأشياء. إنها جميعا ظواهر وليدة فساد مستشر في المجتمع. لقد مس الفساد كل شيء في الحياة. فلم تسلم منه الأقوال والأفعال. وكان كل ذلك عنوان حقبة من التحول السياسي والاجتماعي، وكل ما يتصل بهما. ولم يؤد كل ذلك أخيرا إلا الى المزيد من تدهور القيم والمثل والثوابت التي على أساسها تنهض المجتمعات وتتقيد العلاقات وتتأطر الحريات.
جاء الربيع العربي، بعد عقود طويلة من القهر والعسف، ليقول: لا للفساد. وكانت تلك بداية لنهايات عقود من العسف والقهر. غير أن الفساد الذي تم الإجماع حوله تركز على النظام السياسي ومؤسساته باعتبارهما رأس الفساد. لكن أنظمة أخرى ومؤسسات أخرى ترعرعت في ظل ذلك النظام ومؤسساته فتهيأت لها كل أسباب الفساد، ولم يتم التركيز عليها في خضم الاهتمام برأس الفساد. كان المتخيل الشعبي السياسي السائد يتصور أن سقوط رأس الهرم كفيل بتداعي مختلف مكوناته. لكن المتخيل العلمي المعرفي يقضي بأن التغير إذا لم يتوجه إلى مختلف أنماط الفساد من الأعلى الى الأسفل والعكس، لا يمكن إلا أن يبقي دوائر الفساد الأخرى قائمة تنتظر فرصا جديدة للظهور والانتشار. لذلك كان رأينا منحازا منذ بداية نهايات تلك العقود إلى ضرورة تشريح مختلف أنماط الفساد الأخرى وتحليلها، والصدع بأهمية إحداث تحولات ذاتية (عن طريق النقد الذاتي) على بنيات المجتمع السياسي ( أحزابا ونقابات وجمعيات) بهدف الارتقاء إلى لحظة التحول الكبرى بوعي ومسؤولية. كما أننا كنا مع ضرورة أن يتغير المجتمع الثقافي والإعلامي لينخرط في التجديد من منظور يواكب التطورات التي أحدثها الربيع العربي. لكننا، ورغم مرور أزيد من عام على بدايات الربيع العربي، أمام مجتمع غير قادر على قول كلمته بالكيفية التي تكشف عن رؤية جديدة للواقع وتحولاته.
إذا اتخذنا مثالا لذلك من الإعلام، مسموعا ومقروءا ومكتوبا، نجده لا يزال يشتغل وفق الرؤية التي كانت مهيمنة قبل الربيع العربي. يمكننا تلخيص تلك الرؤية في كلمة واحدة شاعت في مصر السبعينيات بصدد المسرح، وهي :”الجمهور عايز كده؟”. وإذا أردنا تحويلها بالنسبة إلى الإعلام نجد لسان حاله يقول: القراء عايزين كده! فمتى ظهر هذا الشعار، وصار الفلسفة التي تحدد “الخطة التحريرية” لإعلامنا المغربي؟
من الاستقلال وحتى الثمانينيات كان الإعلام المغربي منقسما إلى الإعلام الحزبي المكتوب، والإعلام السمعي البصري الذي تحتكره الدولة. كانت الدولة غير معنية برغبات الشعب ولا يعكس إعلامها غير أنشطة الحكومة و”المنجزات” التي تحققها الدولة. أما الإعلام الحزبي المعارض، فكانت جرائده نشرات حزبية علنية تقدم فيها أنشطة الحزب وتدافع عن أطروحاته السياسية الخاصة. وكان جمهور القراء منقسما بينهما بحسب ميولاته السياسية. كما أن جمهور الإعلام السمعي البصري يتفاعل اكثر مع السهرات الغنائية والفرجوية الخاصة.
حدث التغير في التعامل مع الإعلام مغربيا، منذ الثمانينيات وما تلاها، فكانت بداية ظهور الجرائد التي كانت تسمى وقتها ب”جرائد الفضائح” والقناة الثانية والإيم بي سي. فبدأ التنافس الإعلامي، وصارت تلك الجرائد والقنوات تستأثر أكثر باهتمام المشاهدين والقراء. ظهر ذلك بجلاء في كون الجرائد التي صارت تعنى بالأسرار والفضائح والشائعات، سواء تعلقت برجالات الدولة أو الأحزاب أو الجرائم، داخل المجتمع المغربي أو خارجه تحظى بالاهتمام، نظرا للتعتيم الإعلامي السائد والأحادية في نقل الأخبار والمعلومات، وصارت بذلك تحقق أعلى المبيعات. كما أن تزايد عدد القنوات مع انتشار البارابول، ، خلص الجمهور المغربي من متابعة القنوات المحلية، فكان الإقبال على قنوات الجنس الأجنبية والقنوات العربية المختلفة. وكان لظهور ما صار يعرف بالجرائد المستقلة دوره في تجاوز الإعلام الحزبي والحكومي. في هذه الصيرورة، والممتدة من التسعينيات الى الآن، باتت ميولات الجمهور والقراء، على السواء، راجحة أكثر نحو كل ما هو شاذ وخارق للمعتاد وخارج عن المألوف. وكان أن بدأت الجرائد الحزبية بدورها معنية بتقديم هذا النوع من الأخبار، ولا سيما بعد أن بدأ الصراع السياسي يخفت تحت ظلال التوافق والتناوب والثقة في النفس السياسية. ويكفي ان نضرب مثال: قصة الكوميسر ثابت التي اهتم بها كل الإعلام المكتوب، وصارت تثير فضول القراء، وبذلك صارت ترتفع المبيعات. وقس على ذلك في الفترات الملتهبة التي تشبه دخول العراق الى الكويت وتداعياتها. بكلمة أخرى صار ما يهم الإعلام المكتوب هو رفع مبيعاته بما يتلاءم مع أهواء القراء التي تتجسد في القضايا السياسية والاجتماعية مثيرة ومفجعة وعجيبة… وآية ذلك عناوين الصفحات الأولى التي صارت تنهض على أساس الإيهام وبيع الأوهام. تجد عناوين غليظة في الصفحة الأولى، وفي الصفحات الداخلية تجد نفسك أمام بضعة أسطر لا تساوي تلك العناوين الكبيرة…
صارت أركان الجرائد وزواياها وصفحاتها متشابهة، تماماً مثل لغات الأحزاب وخطاباتها ومصطلحاتها. وكلما ابتدعت جريدة أسلوبا يميزها، تجد الجرائد الأخرى تسير على منوالها. وأحيانا، وبدون أي جهد، تجد العديد من الجرائد تنقل الخبر نفسه، من المصدر نفسه، والأخطاء الإملائية نفسها، حول الضفدعة التي زوجوها ضفدعا في الهند مثلا؟ وصارت الجرائد والقنوات وحتى الشبكات الاجتماعية الرقمية (RSN ) تتنافس في تقديم الفتاوى المضحكة المبكية نفسها لفقهاء مغمورين، وتصريحات لصحفيين من الدرجة الرابعة، فقط لأنها مثيرة تستدعي التندر، أو عجيبة تدعو إلى التفكه، أو لمجموعات من الأشخاص لا همَّ لها سوى أن تصبح عنوانا على الصفحات الأولى، ولا عبرة بالمضاعفات. أو لمحامين مستعدين للدفاع حتى عن الشيطان، للغايات نفسها. أما أخبار التقتيل والجرائم الشاذة فهي المشترك بين العديد من هذه الجرائد التي كان ينبغي أن يكون بعضها ملحقا لوزارات العدل أو أقسام الشرطة أو لإدارة السجون،،،
إن تعداد المظاهر التي صار يزخر بها الإعلام المغربي والعربي أيضا يمكن أن يخرج بنا عما نريد الوصول إليه. ويكفي أن نقول في توصيفها علاوة على ما ذكرنا، إن شعارها لم يبق فقط هو: القراء عايزين كده، ولكنه صار أيضاً يتدثر بقول ذلك القاص العربي القديم الذي كان يحدِّث الناس في الساحة العمومية، وقد أدركه الأذان، فخشي أن يتفرق الناس من حوله ولا يتأتى له جمع النقود، فخاطبهم محفزا إياهم على الرجوع إلى حلقته بقوله: “العجائب بعد الصلاة!”.
القراء عايزين “العجائب”. ولا يقدم هذا الإعلام غير العجائب: عجائب الفتاوى، وعجائب الأخبار وعجائب الأطروحات.يكمن الإيهام في تقديم “العجائب” على أنها الوقائع. أما الاستيهام فنجده في دغدغة عواطف القراء، وتلبية حاجاتهم إلى أخبار الرياضة والجرائم والصراعات والأعراض والفتاوى العجيبة… ولا ينجم عن كل ذلك غير بيع الأوهام. ومع ذلك، أو بسببه أيضا، لا أدري، لا يمكننا إلا أن نكتب: إن القراء والجمهور عايزين كده؟