حديث الصباح / جريدة الصباح 25 يوليوز 2012
نربأ بالجيش السوري الحر أن يتحول إلى أداة للدمار والتقتيل والانتقام.
سعيد يقطين
عندما قام القذافي بشن الحرب على شعبه معتبرا إياه حشرات عليه أن يبيدها بما تراكم لديه من أسلحة وذخائر، اعتبرنا ما قام به هذا النظام شيئا يفوق كل تصور. ويتبين الآن أن ما يجري في سوريا أكثر مما رأيناه في ليبيا . فما إن خرج الشعب السوري مطالبا بالحرية، حتى استرجع النظام السوري ذاكرته الدموية في حماه، وأراد تسجيل مفاخره على درعا المعزولة، فكان أن تحولت مطالب الشعب السوري في كل سوريا، من الحرية إلى الرحيل. كشر الأسد عن أنيابه، وخلناه يضحك وهو يقدم روزنامة من “الإصلاحات” المدججة بالحديد والنار، وخرجت “الشبيحة” من القمقم لترينا أصناف التعذيب والتنكيل وهي تلتف على جماهير تخرج ليلا لتغني وتصفق إيذانا برحيل نظام استنفذ خطابه مشروعيته من زمان.
لم تختلف الأنظمة العربية التي خرجت عليها شعوبها مطالبة برحيلها مظهرا أو مخبرا. فالشعب الذي خرج مطالبا بالإصلاحات إرهابي وموجه من القاعدة… إنها اللغة نفسها التي استعملتها أمريكا في حربها المباشرة على الشعب العربي والإسلامي في العراق وأفغانستان. وتحت ذريعة مواجهة “الإرهاب” تخاض الحرب الإبادية. منذ ستة عشر شهرا ورحى الحرب التي شنها النظام السوري على شعبه تدور مخلفة يوميا عشرات القتلى، وآلاف النازحين. مورست في الحرب كل أصناف الأسلحة، البرية والجوية، ويساندها الخطاب الرسمي الذي يتحدث عن العصابات الإرهابية الموجهة من الخارج. ومنذ أن بدأ الجيش الحر يستقل عن أوامر القمع النظامي، ويصطف إلى جانب الشعب الأعزل اتخذت الحرب طابعا حول البلد بكامله إلى بؤرة مشتعلة تلقي بظلالها على البشر والشجر والحجر.
كان التخويف من الإرهاب والتدخل الخارجي سيد الموقف. وكانت المهل المعطاة للنظام السوري سواء من لدن الجامعة العربية أو الأمم المتحدة، وكان للفيتو الروسي والصيني دوره الكبير في إعطاء الشرعية للنظام لإبادة شعبه. هذه الإبادة كانت مقصودة ومضبوطة على إيقاع تنويع الموقف من الربيع العربي وآثاره على المنطقة. فالتفكير في إسرائيل وفي أمنها القومي هو محدد كل المواقف بالرغم مما يسند ذلك من خطابات ملتوية واحترازية في الظاهر.
لم يكن خافيا على أحد، حتى من أشد المتحمسين للأنظمة العسكرية “الثورية” العربية ، أنها أنظمة مخابراتية ودموية وقمعية. وكانت مبررات الاصطفاف إلى جانبها من منظور الحركات اليسارية والديموقراطية في السبعينيات أنها في المواجهة مع الإمبريالية الأمريكية وإسرائيل والأنظمة الرجعية، وأن مساندتها غير المشروطة تصب في مسار تغيير موازين القوى لفائدة حركة التحرر العربي؟ لكن هذه الأنظمة، وياللمفارقة، ظلت تستمريء هذا الموقع لإذلال شعوبها وتجويعها وتضييق الخناق على مثقفيها ومعارضيها، بدل أن يكون العكس، بذريعة أنها تخوض حربا مصيرية ضد العدو التاريخي. وصارت خرافة المقاومة والممانعة السيف المسلط على الرقاب المطالبة بالديموقراطية وبالإصلاح. لكنها بالمقابل لم تكن في مستوى خوض حرب ضد العدو، ولا حتى القيام بالرد على الاعتداءات التي تمت على أراضيها، بله تحرير أراضيها المحتلة؟ وباسم احتواء بعض التنظيمات الفلسطينية على أراضيها، ودعم المقاومة اللبنانية ورفع التأشيرة على الدول العربية وإتاحة العضوية لأي كاتب عربي ليكون ضمن اتحاد كتاب العرب، ورفع شعارات الوحدة العربية والاشتراكية كانت سوريا تقدم نفسها رافعة للمقاومة والتصدي والصمود.
ظل هذا الوضع قائما طيلة حكم حافظ الأسد. واستمر بعد تغيير الدستور لفائدة الشبل الذي ظهر في البداية بمظهر المغير للوضع. ولكنه بعد مدة قصيرة بات أسدا لا يقل عهده صرامة عن السابق. وعندما خرج الشعب مطالبا بالحرية، ظننا أنه سيملك الشجاعة السياسية ليستجيب للمطالب الشعبية، لكنه أبان عن الطبيعة الجوهرية للنظام والتي لا يمكن أن يفتح مجالا للحوار والتغيير. وكان القتل اللغة الوحيدة.
كل الأنظمة الجمهورية “الثورية” العربية، وقد باتت ملكيات، متشابهة في موقفها من مطالب الشعب. لذلك ظلت أمريكا، ومن يسير في فلكها، تساند هذه الأنظمة، وإن كانت خطاباتها الرسمية تعلن نقيض ذلك. إن ما يهمها بالدرجة الأولى والأخيرة هو مصلحتها التي لا تتعارض مع إسرائيل. وأنظمة المقاومة والممانعة “أنعم” في مواجهتها. ولذلك ظلت إسرائيل سيدة الموقف، وجعلها الربيع العربي تضرب أسدادسا في أخماس. وبدا ذلك بجلاء من موقفها من تونس وليبيا ومصر، وحتى من سوريا. ففي الأسبوع الأول من الانتفاضة الشعبية، وقعت اصطدامات مع إسرائيل على الحدود في الجولان، الشيء الذي لم يقع في كل تاريخ الممانعة؟
لكل هذه الاعتبارات، لا تريد أمريكا والغرب، تكرار ما وقع في العراق وليبيا وأفغانستان، وذلك بالانخراط العسكري المباشر في سوريا. إنها تريد مجتمعة تدمير سوريا، تماما كما تم تدمير العراق. أما في سوريا، فالنظام وهو يتخذ موقفا ضد الحراك الشعبي، وما آل إليه بعد الانشقاقات داخل الجيش، كفيل لوحده بممارسة التدمير الذاتي عبر إشعال الحرائق في دمشق، وتحويل سوريا بكاملها إلى حريقة. لذلك لا بد من تركه يمارس أسديته وقد زاد رصيد معدل ضحاياه يوميا ليتجاوز المئة، ويتوالى النزوح بالآلاف. إنه يقوم بما تعجز عنه أمريكا وحلفاؤها، وعلى المستويات كافة. ولا يمكن أن يكون للتلويح بعدم التدخل، وتشجيع المعارضة، واجتماعات مجلس الأمن والأمم المتحدة، والفيتو، سوى تغطيات على النظام ليمارس حربه على معارضيه مسلحين من الجيش الحر أو عزّل من المتظاهرين في جمعات صارت لا تعد ولا تحصى.
الشعب السوري راق ومتحضر. شعب مثقف وفنان. شعب يحب الحياة ويزهو بالأمل،،، صبر كثيرا على العسف والقمع وعد الأنفاس، باسم المقاومة. وعندما انتفض مطالبا بالحرية، لم يتفهمه النظام السادر في ممانعته وقد صارت منعا للكلام والمطالبة بالديموقراطية. خذل العالمُ الشعبَ السوري وهو يحترق تحت نيران الظلم والطغيان. لكن الشعب عبر عن استماتته في الدفاع عن مطالبه العادلة كما أبان عن شجاعة نادرة في مواجهة الآلة الحربية والقمعية التي لم تسلم منها أسرة سورية. أن يصبر شعب طيلة ستة عشر شهرا أمام عجز العالم العربي والغرب وأمريكا عن إيقاف المأساة ، فهذا دليل على أنه سيحسم الأمر لصالحه مهما كلفه ذلك من تضحيات.
ها قد برزت يا أسد إلى “غزالة الشعب في الوغى” وظل قلبك في جناحي طائر؟ فهل تستطيع إيجاد حل للمأساة التي أغرقت فيها سوريا؟ وهل تفلح في إيقاف عجلة العنف التي تتحرك في المدن والقرى والأرياف؟ وهل تنجح أخيرا في إطفاء حرائق دمشق، بل وفي نزع فتيل سوريا الحريقة؟ إن من يزرع الشوك لا يجني سوى العاصفة. ونربأ بالجيش الحر أن يتحول إلى أداة للدمار والتقتيل والانتقام. فسوريا المعارضة مطالبة بالارتقاء إلى الحلم الشعبي، وإلى ممارسة الاختلاف بطريقة حضارية، تبين المستوى الحقيقي للشعب السوري، وما يزخر به من طاقات ومؤهلات، تمكنه من الخروج من العاصفة ظافرا وقادرا على الحفاظ على سوريا عملاقة، وشامخة، تنبت كل الثمار والفواكه التي تحمل أسماء أريافها ومدنها العريقة والأصيلة.