حديث الصباح / الأربعاء 11 يوليوز 2012
من أجل سياحة شعبية وطنية
سعيد يقطين
من لا يعرف قيمة العمل، لا يمكنه أن يعرف قيمة العطلة. وإذا كانت العطلة، أو الإجازة، كما يسمونها في المشرق العربي، توقفا عن العمل بقصد الاستراحة واستئنافه بعد مدة بهمة ونشاط، فهي أنواع: العطلة الأسبوعية، وعطل الأعياد، والعطلة السنوية. وإذا كانت العطلة نقيض العمل، فإن بعض العمل عندنا، في غياب الصرامة والانضباط، عطلة: التأخر في الدخول والخروج قبل الوقت عطلة. كما أن التوقف خلال فترة العمل للحديث، أو بذريعة “السيستيم خاسر؟” أو إخلاء المكتب، أو الحديث الطويل في الهاتف،،، كل ذلك عطل. وتعطيل العمل يبين لنا نوعية العلاقة التي نقيمها مع العمل وقيمته. ويضعنا أمام الذهاب إلى أننا كما نمارس العمل بدون محبة ولا إتقان، تكون عطلنا بلا ثقافة ولا مردودية.
لا أريد الحديث عن علاقة العمل بالعطلة في ثقافتنا وممارستنا، فذاك موضوع لم نفكر فيه بما يلزم لأن كثرة العاطلين والمُعطَّلين والمتعطلين والمُنعطلين والمستعطلين ( هذه المفردات غير موجودة في المعاجم؟ ولكنها في الواقع فقط ) تجعله موضوعا ثانويا، ولا يحظى بالأسبقية. ولكني سأتناول ما كنا نسميها، العطلة الكبيرة، وكيف يتعامل معها السواد الأعظم من المغاربة؟ وما هي علاقتهم بها؟
مع الصيف، تتعطل المدارس والعديد من المؤسسات. ويكون ذلك مناسبة للبحث عن أماكن للاصطياف أو الاسترواح، والبحث عن فضاءات “الاستجمام والراحة”، كما كنا نكتب في إنشاءاتنا، حين كنا قادرين على الإنشاء. أما الآن، فلا إنشاء ولا خبر؟ يمكننا التمييز بين حقبتين كبيرتين في علاقة المغاربة مع “العطلة الكبيرة”. تعكس هاتان الحقبتان التحول الذي عرفه مغرب ما بعد الاستعمار. تمتد الحقبة الأولى من الاستقلال إلى 1975. أما الثانية فهي من 75 إلى الآن.
في الحقبة الأولى كانت الحياة لا تزال طبيعية والعلاقات العائلية والأسرية قوية. كما أن الصلات مع الأصول البدوية أو القروية وطيدة. لم يكن السؤال عن العطلة مطروحا، فالبادية فضاء فسيح لتجديد الوالدين علاقتهما بملاعب الصبا والذاكرة والقبيلة. كما أن زيارة عائلة لها بيت كبير لـ”تدواز العطلة” مهمة لا حرج فيها. وبين العائلة والبادية،كانت للذهاب إلى البحر مشيا على الأقدام من ابن مسيك إلى عكاشة أو سيدي عبد الرحمان بولمجمر متعة خاصة، وإن كان لا ينجم عنها غير الجوع، لأن البحركيجوع؟ والتعب. تكفي عدة تشلبيخات في زرقة مياه البحر، أو التعرض للأمواج السبع بالنسبة إلى البنات للشعور بأن العطلة جميلة، وسنكون قادرين على الإجابة عن السؤال التقليدي الذي يواجهنا في بداية الموسم الدراسي:أين قضيتم العطلة؟ كان الأساس هو تكسير رتابة الأيام الصيفية الطويلة، و”التفجيجة مع الأحباب” (قشبل وزروال) للإحساس بالتغيير.
أما في الحقبة الثانية، فقد تغيرت الأمور كثيرا، وعلى المستويات كافة. فالذهاب إلى البادية صار مكلفا. فكل خيمة تذهب إليها عليك أن تصرف فيها، وإلا حدروا منك العين: فلا بيض يسلق، ولا دجاج يذبح، ولحم السوق لا يكفي موالين الخيمة فبالأحرى الأخوات اللواتي جئن بأولادهن من المدينة؟ ويكون الشجار بين الأولاد مناسبة للغضب، والرحيل مع القسم بعدم الرجوع إلا للعزاء. ولم تعد أي عائلة تستحمل وفود الضيوف بأولادهم لقضاء بضعة أيام من العطلة. فالشقق المكتراة لا تتسع إلا لأفراد الأسرة. أما البحر فصار غاليا: حافلات، وأكل ومشروبات، وكل ما يشترى بأثمان باهضة. ولم يبق سوى بحر المزاليط البعيد والملوث.
كانت الكشفية تستوعب جزءا من الأطفال. وكانت بعض الحرف تستقطب جزءا آخر. كما أن بيع ميكا في الأسواق أولا والديطاي في مرحلة لاحقة يشغل بعض الأولاد بقصد الحصول على تذكرة للسينما، أو جمع النقود لمواجهة الدخول المدرسي. وتبقى فئات أخرى عرضة للشارع تتعلم التحراميات، وتمارس الشغب، وتجلب الخصومات.
لم تكن الأحزاب معنية بتنظيم ملتقيات للشباب أو للأطفال. ولم تكن الجمعيات تعمل على تأطيرهم خلال العطلة الكبيرة لتأهيلهم للانغمار في الحياة العامة. باستثناء بعض المؤسسات ( السكك، الماء والكهرباء،،،) التي كنا نغبط الأبناء الذين كان آباؤهم يشتغلون فيها، لأنها كانت تفتح لهم بعض المخيمات. وكل كان يقضي العطلة بما هو موجود. لم تتكون لدينا “ثقافة” العطلة ولا فكرة التدبير لشؤون الحياة المالية خلال السنة بهدف التخطيط لها، وأين ستقضى. صحيح كان المرء يتعافر مع الزمن من أجل توفير القوت اليومي، وما يأتي به النهار، يسلبه الليل. ولذلك كان التفكير في العطلة غير موجود في قائمة الأولويات. العمل أو البحث عن العمل هما الحياة سواء بالنسبة إلى المقيمين أوالمهاجرين. وبحسب الحرف والمهن ونوعية العمل، كانت تحدد فترات للعطلة. لذلك صارت العطلة “الكبيرة” لا ترتبط فقط بالصيف: فهي عند البعض مناسبة عيد الأضحى، وعند آخرين شهر رمضان. أما الموظفون الذين كانوا يستعطلون في الصيف، فكانت العطلة مشكلة: أين نقضيها؟ وكيف؟ وبماذا؟ وظل يعاني الكثيرون من المغاربة من هذه المشكلة.
عندما ألتقي مع بعض العرب أو الأجانب أجدهم يحدثونني بإسهاب وإعجاب عن العديد من المناطق في المغرب أسمع بها لأول مرة؟ بل إن بعضها لا يعرفها أبناء تلك المنطقة بله أبناء المغرب. فأتساءل مع نفسي لماذا تتاح لهم فرص التمتع بخيرات بلادنا، ويزورون مناطق أشتهي زيارتها، ولكني لا أعرفها.
عندما كنت في ليون، كنت أرى على واجهات وكالات الأسفار إعلانات عن رحلات إلى مراكش وأكَادير للسفر والإقامة لمدة أسبوع كامل بسومة تكاد تساوي بطاقة رجوعي فقط إلى المغرب؟ وكنت أتمنى أن تقبل مني وكالة السفر فقط بتلك السومة بطاقة تذكرة إلى مطار محمد الخامس؟ ويسرح بي الخيال: ماذا لو أن وكالات السفر عندنا تقوم بالعمل نفسه مع المغاربة من الشرق أو الشمال أو الوسط لزيارة مراكش أو أكَادير أو فاس أو الحسيمة أو وارززات،،، صحيح سوف لا يحمل المغاربة عملات أجنبية، ولكنهم على الأقل سيروجون ويستروحون ويتعرفون على أجزاء من “وطنهم” ومن ثقافاته المتنوعة والغنية. عندما ذهب معي صديقي الريفي الذي عاش في تركَيست، وجمعتنا كلية الآداب في السبعينيات، إلى الدار البيضاء، قال لي إنه لأول مرة يزور الدار البيضاء ويرى البحر، وزار معي بعدها مراكش. وزرت معه تركَسيت وميضار والناضور والحسيمة لأول مرة في حياتي، بل ولم أعد إلى هذه المناطق منذ ذلك التاريخ؟ باستثناء الناضور التي زرتها في مهمة ثقافية؟
المغاربة معروفون في التاريخ بحب الرحلات والأسفار. وكان آباؤنا الفقراء يخلقون مناسبات للسفر بقصد “الاستشفاء” ظاهريا، وباطنيا بهدف الاسترواح، إلى المواسم والأولياء والأضرحة البعيدة، وإلى مولاي يعقوب وسيدي حراجم، ,وإلى مختلف العيون. كانت الخرجات إلى النزهات و”النزاهات” تقاليد في مختلف القرى والمدن. في غياب مواطن للراحة، لم تبق لفئة من المغاربة غير ” الفضاءات التجارية” التي يذهبون إليها نهاية الأسبوع للتسوق، وابتلاع الماك دونالد؟ أما من زغبه الله وأراد السفر إلى مراكش أو أي مدينة أخرى، فما عليه سوى الندم على خروجه، والقسم بألا يعود أبدا ولو للعزاء: فحتى حارس السيارات؟ سيعتبره سائحا، وعليه أن يميح منه دراهم معدودات مقابل بضع دقائق. أما كأس القهوة وقطعة الثلج، ولا داعي للحديث عن وجبة غذاء مع أولاده في الطريق السيار، فسيؤدي عنها مقابل “خمسة نجوم” في فندق لا يدخله المغاربة المغاربة، وليس المغاربة الآخرون، أليس سائحا مغربيا يريد أن يكون مثل الآخرين؟
للمغاربة ثقافة سياحية، ولكن السياسة السياحية قتلتها، كما قتلت سياسات أخرى ثقافات أخر. فمتى سيتعرف المغاربة على وطنهم؟ ويحبون وطنهم؟ ويستمتعون بعطلهم؟ جواب واحد ووحيد هو: عندما تصبح عندنا سياسة سياحية وطنية شعبية.