حديث الصباح/ جريدة الصباح، الأربعاء 30 ماي 2012
جامعاتنا تحتل أدنى المراتب عربيا ومغاربيا؟
سعيد يقطين
يمكننا تعريف الجامعة بأنها المؤسسة التي تعنى بالبحث العلمي ويسعى التكوين فيها إلى تأهيل الطلاب للحصول على المعرفة العلمية في تخصص معين (الطبيعيات أو الإنسانيات ) بقصد الانخراط في المجتمع بصفة عامة، والعلمي بصورة خاصة، وذلك عبر الإسهام في بلورة مجتمع المعرفة. ولعله بمقتضى هذا التعريف، أو بالاستناد إلى بعض عناصره، يتم تصنيف الجامعات وترتيبها على المستوى المحلي والجهوي والعالمي. فالتصنيف الأكاديمي للجامعات العالمية (ARWU) يأخذ بعين الاعتبار المعايير التالية: جودة البحوث والمنشورات الأكاديمية ونوعية التعليم وتوظيف الخريجين وعدد الطلبة والأساتذة الأجانب.
لا نريد الوقوف على موقع المغرب ضمن الجامعات العالمية، لأننا سنجد أنفسنا خارج التصنيف.وحتى بالنظر إلى الموقع الذي تحتله الجامعات المغربية على المستوى العربي فإننا لا نجدها ضمن الجامعات العشر الأوائل التي تحتل فيها السعودية الدرجة الأولى (٤ جامعات) متبوعة بمصر(٣جامعات) ولبنان والكويت والإمارات ( جامعة واحدة لكل منها). وعندما ننظر في لائحة المائة للجامعات العربية سنجد أول جامعة مغربية هي القاضي عياض(الرتبة ٣٢) تليها جامعة الأخوين (الرتبة ٥٧) فجامعة محمد الخامس أكدال( الرتبة ٥٩) ثم المدرسة المحمدية للمهندسين (الرتبة ٦٤).
مهما كان موقفنا من هذا الترتيب ومن بعض المعايير المعتمدة فيه، فلا يسعنا غير التساؤل لماذا لم توجد أي جامعة مغربية ضمن الجامعات العشر الأوائل على المستوى العربي، علما أن بعض الجامعات العربية الأولى في الترتيب العربي تعمل جاهدة على استقطاب الكفاءات المغربية الأكاديمية ؟ ولماذا تأتي جامعاتنا في الترتيب بعد بعض الجامعات الجزائرية، بل وبعد بعض الجامعات الفلسطينية في قطاع غزة. والأنكى من ذلك أن كلية العلوم بالرباط تحتل الرتبة ٧٧ بعد جامعة مقديشو ؟ لا أقلل من شأن الدول العربية التي قارنت بعض جامعاتها بجامعاتنا، ولكني حين أقارن الإمكانات التي تتوفر عليها بعض الجامعات وتاريخها الأكاديمي ( المدرسة المحمدية وكلية العلوم وجامعة محمد الخامس) بالواقع المأساوي الذي تعيشه فلسطين والصومال فلا يمكنني سوى أن أطرح السؤال.
أما عندما نتأمل لائحة الجامعات الأولى عالميا على المستوى القاري، فإننا سنجد أولا في أميركا الولايات المتحدة متبوعة بكندا. وعلى المستوى الأوربي نجد بريطانيا فألمانيا وإيطاليا وهولندا. وفي آسيا تأتي الصين في المقدمة وبعدها اليابان فتايوان. ثم في أستراليا نجد أستراليا. وفي أمريكا الجنوبية نجد البرازيل وبعدها المكسيك. بمعنى آخر أن الجامعات الفرنسية التي ندين لها بالتبعية في كل شيء ونتبع سياساتها التربوية والأكاديمية غير مصنفة عالميا، وغير موجودة حتى ضمن التصنيف الأوربي؟
فما الذي جعل جامعاتنا تحتل أدنى المراتب عربيا ومغاربيا رغم الإمكانات المغربية التي تجعل بلدنا متميزا تاريخيا وثقافيا وسياسيا؟ لا نبحث كثيرا عن الجواب الذي نختزله في كلمة واحدة: غياب استراتيجية أو سياسة تعليمية وطنية. فالتجريب والارتجال والمحو أهم ممارسات كل الحكومات المتعاقبة منذ الاستقلال إلى الآن. فلا نطرح مشاكل الجامعة إلا عندما نصل إلى الطريق المسدود، فيكون الارتجال والتسرع في تجريب سبيل سرعان ما يتبين أنه لا يؤدي إلى شيء. وتأتي حكومة جديدة فتنسخ كل ما أنجز، وتبدأ من الصفر، وقبل أن يكتمل “عملها” يتم تجاوزها لنعاود الكرة، وهكذا. مرة نصل وزارة التعليم العالي بالتربية الوطنية، ومرة نفصله عنها ليس لضرورات عملية ولكن إرضاء لخواطر سياسية. وبما أن الفئة المستهدفة في الجامعة هم الشباب المتحمس للتغيير والمؤطر إيديولوجيا، كانت المقاربة الأمنية الرؤية السياسة التي تحكم العلاقة مع الجامعة على المستوى الرسمي.
إن غياب استراتيجية وطنية للتعليم عموما، والعالي خاصة، واعتماد الارتجال والتجريب في التعاطي معهما ساهم في تردي الوضع التربوي والأكاديمي، وجعلنا في كل حقبة نحاول فيها الإصلاح أمام العقبات نفسها، فبتنا ندور في حلقة مفرغة. فعلى مدى أكثر من نصف قرن، لم نتمكن من تأسيس “مجتمعات علمية” مؤسسة على قاعدة أكاديمية صلبة. وحتى عندما ابتدأ الأخذ بمقاربة مدارس الدكتوراه تم تأسيس فرق البحث ومراكز الدكتوراه بكيفية ارتجالية، ولم يكن الهاجس الأساس غير تأسيسها لمقتضيات يفرضها الإصلاح. أما كيف ولماذا ولأي غاية، فلم يكن في الحسبان. ويمكن قول الشيء نفسه عن طلبات اعتماد الإمدال (الإجازة والماستر والدكتوراه)، إذ أن البعد العلمي يظل مغيبا بالمطلق. ويمكننا تعداد العوائق إلى ما لا نهاية: غياب مجلات محكمة علميا، غياب العمل الجماعي، غياب اعتماد المعايير العلمية في الترقية حيث يتساوى الباحث والمدرس، ويعاقب الذي ناقش دكتوراه الدولة ولم يؤخر دفع ملفه للترقية ريثما ينتقل إلى مرتبة أعلى. ومن فعل يجد نفسه ينتقل مباشرة إلى أستاذ التعليم العالي دون خسران أربع سنوات في أستاذ مؤهل؟ عدم تمكين المدعوين للمشاركة في مؤتمرات دولية من بطاقة السفر أو تقديم منح للبحث. في الجزائر تصرف أموال لتربص الأساتذة خارج الوطن. عدم تمكين الباحث من سنة التفرغ، عدم تجديد التكوين لدى الباحث من تلقاء نفسه لأن المقررات لا تتغير إلا بعد أزمنة طويلة، عدم الثقة في الطلبة وادعاء دائماً أنهم متخلفون وليست لديهم محفزات للاجتهاد. سيادة “لغة سلك وعدي” لدى الأساتذة والانخراط في مشاريع أخرى لا علاقة لها بالبحث التربوي أو الأكاديمي، أو الجمود لغياب العوامل الضرورية، في انتظار التقاعد؟ غياب التراتبية العلمية والتمييز بين الدروس النظرية والتطبيقية. غياب النقاش المتكافئ حول ضرورة التغيير في المقررات والطرق التربوية،،، غياب المحفزات للطلبة، والبنيات التحتية الضرورية…
هذه العناصر وغيرها لا يتحمل فيها الأستاذة ولا النقابة ولا الطلاب ولا المؤسسة الجامعية المسؤولية. فالكل يتحمل المسؤولية، بما في ذلك رجال المال والأعمال، وبالتساوي لأننا لم نتحلَّ بالجرأة الضرورية والصراحة الكافية والشفافية المطلوبة في تطارح هذه القضايا. فكانت الرؤية “الحيادية” أو “العمل بما هو كائن” و”لغة سلِّك وعدّي” هي السياسة المتبعة. فكانت الحصيلة، ليست فقط في احتلال جامعاتنا رتبا دنيا، ولكن في عدم قدرة الجامعات المغربية (العمومية والخاصة؟) على تأهيل شبابنا للانخراط في المجتمع (العمل)، أو في تأسيس المجتمعات العلمية وبلورة”مجتمع المعرفة”.
إن المغرب غني بالطاقات العلمية والأكاديمية، وهي تستشار وتستقطب عربيا وعالميا، ولكنه مهمشة ومقصاة محليا. كما أن طلبتنا، رغم كل ما يقال عنهم، يتمتعون بإمكانات مذهلة، لكن غياب التحفيز والدعم والتشجيع يجعلهم عرضة لليأس والقنوط. فكيف يمكن تحويل مختلف طاقاتنا المعطلة إلى منتجة؟ هذا هو جوهر أي إصلاح حقيقي. إن إصلاح الجامعة والتعليم في مختلف مستوياته مسؤولية وطنية جماعية ولا يمكن لأي كان أن يتخلص منها بذريعة أو بأخرى؟ وما لم تصدق النية وتتجدد الدماء ويكون الحوار صريحا بين مختلف الفاعلين لانتهاج سياسة تربوية وأكاديمية تستجيب للمطامح الوطنية والشعبية ستظل جامعاتنا في آخر الرتب، ومهما خرَّجنا من أفواج سنويا، ستظل كالمنبتّ لا ظهرا أبقى ولا أرضا قطع، أي سنخرِّج شبابا يحتج لمطالب الشغل، وغير قادر على متطلبات البحث العلمي، وبمعنى آخر غير مشارك في التطور الاجتماعي والوطني.
كثيرا ما نلوك مقولة “التعليم قاطرة التنمية”. لكننا ونحن لا نفرق بين القاطرة والمقصورة، يظل قطارنا أبدا متأخرا، وفي الوقت نفسه، خارجا عن السكة، ومع ذلك فهو يسير؟ لكن، لا أحد يعلم إلى أين؟