حديث الصباح:
شكرا قابلة التاريخ، لقد أيقظت “الراقد”ǃ
كل قضايا المجتمع يجب أن تطرح للنقاش العمومي في شقه السياسي والثقافي والحضاري
9 / 5 / 2012
التحولات الاجتماعية الكبرى مثل الولادات القيصرية.إذا لم تكن لها مضاعفات على صحة الأم تكون على صحة الجنين. أما إذا كانت الشروط المحيطة بعملية الولادة غير سليمة فتلك الطامة الكبرى، إذ تكون لها آثار سلبية ليس فقط على الأم والجنين ولكن على الأسرة بكاملها.إن هذا التشبيه يجد مستنده في كون عملية التحول الاجتماعي تؤدي إلى ولادة جديدة للمجتمع تختلف عن الصورة التي كان عليها قبل تلك العملية. ولما كانت ولادة المجتمع الجديد لا تمر في أغلب الظروف في أجواء طبيعية وعادية، كان تشبيهها بالولادة القيصرية متلائما مع خصوصيتها.
وجدتني وانا أحاول التفكير في ما طرأ بعد مرور أكثر من عام على بداية الربيع العربي، وأمامي معطيات عن واقع التحولات التي عرفتها مجتمعات عربية مثل تونس ومصر واليمن والمغرب وسوريا والبحرين، وأنا أضع نصب عيني واقع التحول الذي فرضته امريكا والقوات الغربية الحليفة على العراق وعلى أفغانستان وما بدأت تعرفه إفريقيا، وخاصة بعد الانقلابين في كل من غينيا بيساو ومالي، أسترجع الأدبيات السياسية حول طبيعة التحولات الاجتماعية والثورات والانقلابات منذ القرن التاسع عشر، وأستعيد مفهوم “قابلة التاريخ” التي تسهم في إحداث التحول، وإخراج الحقب الجديدة إلى صيرورة الولادات التاريخية المتجددة.
لكن الاستعادة لا تعني أن المفهوم المستعاد متعال على الزمان. فقابلة تاريخ الأمس لا يمكن بالضرورة أن تكون قابلته اليوم . ولعل هذا أهم احتراز يمكن أن يقوم به من يستعير المفاهيم أو يريد التاريخ للحركات أو للأفكار. قابلة اليوم جاءت بعد انتهاء التقاطب الشرقي الغربي الذي انتهى في أواخر الثمانينيات. وبامتلاك أمريكا زمام مبادرة وقيادة الصراع على المستوى العالمي، والذي ظلت بؤرته الشرق الاوسط، عملت على رسم خارطة جديدة لهذا الشرق وامتداده العربي والإسلامي في إفريقيا. وهي الآن ومنذ زمان بصدد تجفيف مداد الخارطة على نار هادئة. بعد إشعالها نار الفتنة في كل من أفغانستان وتوريط باكستان في القضية الأفغانية ووضع العراق على برميل بارود من المتفجرات باسم الديموقراطية، وتحت ذريعة امتلاك أسلحة الدمار الشامل، تتفرغ لإيران بالدريئة نفسها تقريبا: الملف النووي. وبعد تاريخ من الضغط على السودان يتم فصل الجنوب عنه. ناهيك عن إثارة الفتنة بين الفلسطينيين، وتقسيم فلسطين إلى ضفة وقطاع، واشتراط عدم المصالحة الوطنية بين الفلسطينيين لاستئناف التفاوض. أماالدول العربية ومعها مختلف المؤسسات، حكومية أو شعبية، فقد انتهت إلى الجمود الذي يكاد ينبئ بألا شيء تحت الشمس؟
جاء الربيع العربي ليكون قابلة التاريخ العربي في القرن الحادي والعشرين. كان الشباب والشعب أعزلين إلا من الإيمان بضرورة تغيير الوضع والقضاء على الفساد بكل صوره وألوانه، والذي ترسخت بنياته في الوجود والوجدان نتيجة عقود طويلة من الانفراد بالسلطة وتهميش القوى الوطنية والديموقراطية، أو إدماجها في البنية الإفسادية نفسها. شاهدت قابلة التاريخ العربي الحديث سقوط بعض الأنظمة وانتخابات، وبداية التفكير في دساتير جديدة، أو تنزيلها. لم تكن أمريكا وإسرائيل، في العمق، راضية عن هذا التحول، فقد جاء ليخلط لها الأوراق في المنطقة ويفسد عليها رسم الخارطة وفق قياسها. ولم يكن تخليها عن حلفائها القدامى، وحتى خصومها، إلا تحت ضغط الشارع العربي، محاولة منها لاحتواء التحولات وتوجيهها في الوقت الملائم الوجهة التي تخدم مصالحها.
لم تكن الجاهزية للاستفادة من هذا التحول غير القوى الإسلامية المعتدلة. وكان من الطبيعي أن يثير هذا الصعود تخوفات، من الإرهاب والتطرف، من الداخل والخارج. كما أنه كان من الطبيعي أن تستغل جهات إسلامية متطرفة المناسبة لفرض توجهاتها ومواقفها. وثالثا كان من الطبيعي أيضاً أن تسعى القوى المعارضة للربيع العربي والمضادة له تحت مختلف الأسماء والشعارات أن ترفع أنواعا من المطالب لعرقلة أي تحول حقيقي يصب في المصلحة العليا للوطن والمواطنين. لا يمكن لأي متتبع للتحولات الاجتماعية المختلفة إلا أن يتبين بوضوح مثل هذه المواقف المتنافرة والمتباينة، والتي تجد من يشعل فتيلها لإفراغ الربيع العربي من محتواه الجوهري، وإبراز أن الواقع الذي كان أحسن مما هو كائن، وما يجري في مصر حاليا خير دليل على ذلك.
كان الوضع المغربي مختلفا، عن بقية الدول العربية. لكن إكراهات التحول الاجتماعي كانت تكمن أساسا في عدم جاهزية الذهنيات السياسية التقليدية لمواكبة روح هذا التحول، وعدم قدرتها على مواكبته بانتهاج تصورات جديدة في الوعي والممارسة. كما أن حركة 20 فبراير لم تكن عندها صورة دقيقة عن طبيعته وآفاقه. لذلك كان منطلقنا في مختلف الكتابات التي اتصلت بهذه اللحظة التاريخية العربية، والمغربية ضمنها، تصب مجتمعة في هدف واحد: الارتقاء إلى متطلبات المرحلة عن طريق تجديد رؤيتنا وممارساتنا السياسية ومواجهة مختلف التراكمات السلبية التي هيمنت خلال عقود طويلة من الفساد الذي لم يقف على حدود الإدارة، ولكنه تعداها إلى مختلف المؤسسات حكومية أو شعبية. وكان من تجليات هذا الموقف المناداة بتجديد الاحزاب والمجتمع المدني والمثقفين لعلاقتهم بالمجتمع وقضاياه من منظور وطني ومستقبلي يأخذ بعين الاعتبار كل الإكراهات ذات الطبيعة التاريخية والظرفية سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي والتعامل بعقلانية مع مختلف المستجدات التي تتعارض والمطالب الشعبية في أبعادها الوطنية. وترجمنا ذلك بدعوتنا إلى بناء الحكومة على أساس الانسجام، والمعارضة على قاعدة الوحدة، وذلك بانتهاج الحوار الديموقراطي والتواصل الجاد عن طريق تجاوز الذهنيات “السياسوية” القديمة وتعويضها برؤية وطنية شاملة. إن أي متتبع للسجالات الجارية منذ تشكيل الحكومة إلى الآن، سيلمس بجلاء أن لا شيء تغير على مستوى العلاقات بين مختلف الأطراف، وأن “شد ليا نقطع ليك” سيد تدبير الاختلافات والتناقضات.
إن تجاوز الرؤية “الانتخابوية” والرؤية الضيقة في ممارسة السياسة ضرورة مستعجلة. كما أن انتهاج أسلوب الحوارالحقيقي، وليس السجال العقيم والتمثيل المسرحي، ينبغي أن يتم ليس فقط بين مكونات الحكومة والمعارضة، ولكن بينهما جميعا وكل الفاعلين في المجتمع من نقابات ومؤسسات ومثقفين. إن كل قضايا المجتمع المغربي، وبدون استثناء يجب أن تطرح للنقاش العمومي، ليس السياسي فقط، ولكن الثقافي والحضاري أيضاً. والكل مدعو للانخراط في هذا النقاش الذي ينبغي أن يكون على مرأى ومسمع من الجميع وأن يُدمَج فيه الجميع. إن الورشات التي فتحت خلال التهييء للدستور الجديد توقفت للأسف مباشرة بعد الاستفتاء. وصارت لدى البعض أوهام بصدد التنزيل وكأنه العصا السحرية التي تحل كل المشاكل التي تهم المواطن المغربي في حياته اليومية.
شكرًا لقابلة التاريخ المغربي، لقد أيقظت “الراقد”. لكنه ما زال مغمى عليه بسبب هيمنة النقاشات الجانبية والهامشية والتصورات المتباينة حول هل هو أسطورة أو واقع؟ ومن هو أبوه؟ أو من هو أحق بالانتماء إليه أو تبنيه؟. مطلوب الآن تكثيف الجهود الجماعية والشعبية، ومن منظور وطني، لإنعاشه ليتنفس هواء الحياة المغربية التي ينشدها المغاربة جميعا. وسيتأكد الجميع أن الأسطورة أحيانا أكثر واقعية من الواقع، إذا أحسنا قراءتها في ضوء الحلم الوطني الجماعي. أما الأحلام الخاصة والضيقة كيفما كان جنسها أو نوعها فليست سوى أوهام، وبيننا الأيام…