تشكل اتحاد كتاب المغرب في الستينات ليكون إطارا عاما لكتاب المغرب العربي. ثم تقلص حلمه ليصبح خالصا للكتاب المغاربة. وفي أواسط السبعينات حسم موقفه من الدولة وقرر الانحياز إلى الحركة الديمقراطية المعارضة، مفضلا أن يظل بمنأى عن وصاية الدولة، عكس كل الاتحادات والروابط العربية التي ظلت تابعة لدولها. وبقي اتحاد كتاب المغرب يفتخر بأنه مستقل، ولا يضارعه في ذلك سوى اتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين قبل اتفاقات أوسلو. واكب الاتحاد مد وجزر الحركة الديمقراطية المغربية. كما عرف لحظات علا فيها نجمه وطنيا وعربيا، وأخريات خاب فيها سهمه وخبت جذوته، وهو الآن يعيش وضعا لا يختلف مظهرا ومخبرا عما تعيشه الحركة الديمقراطية من تشرذم وضعف وانحسار. كل هذا التاريخ الذي قطعه الاتحاد يعكس بجلاء انتماءه إلى الجسم الوطني المغربي في نجاحاته وإخفاقاته. وفي هذا التاريخ أيضاً، كانت تتعالى، بين الفينة والأخرى، أصوات تطالب بتجديده وفتح مسارات جديدة تتلاءم واللحظات الكبرى التي عرفها مغرب الاستقلال. وعندما لا تجد تلك الأصوات لها صدى في آذان الاتحاد تبتعد عنه مصرحة بعدم انتمائها إليه. وفي الوقت الذي تخرج فعاليات لعبت دورا ما في مسيرته، كانت تلتحق أصوات جديدة همُّ بعضها الحصول على بطاقة العضوية، أو كسب الاعتراف الأدبي، وهم بعضها الآخر الحصول على مواقع داخل الاتحاد. صار الاتحاد يضم أجيالا من الكتاب، لا يجمع بينهم سوى أنهم جميعا يحملون بطاقة العضوية التي لا تخول لهم سوى حضور المؤتمرات. وربما كان هذا الذي يجمعهم كثير جدا، لأن بعضهم كان يسترجع مقابل عضويته سفريات أو مشاركات في ندوات. بينما آخرون لا تدر عليهم سوى اختطاف لحظة فرح عندما ينعقد مؤتمر ما، فيجدون أنفسهم مشاركين بأصواتهم في ترجيح الكفة الغالبة لاختطاف المواقع في أجهزة الاتحاد. بينما آخرون أعضاء بالاسم فقط، فلا يجددون عضويتهم ولا يشاركون حتى في الانتخابات. يدفع هذا الواقع، بين الفينة والأخرى، إلى ظهور كتابات تغمز في جانب الاتحاد «تغماز التين»، مشددة على جمود الفروع وتقلص الأنشطة، كانت بعض تلك الكتابات أو التصريحات لا تخلو من غيرة على الاتحاد. كما أن بعضها الآخر كان تصفية حسابات ذاتية. وبعض ثالث كان يتبع سياسة الهجوم العنيف بهدف إثارة الاهتمام إليه لإسكاته بإرضائه بتحقيق مبتغاه في أن يكون له موقع مع الجهة الغالبة. كتبنا مرارا عن الاتحاد وحاولنا تشخيص ما آل اليه. دافعنا عن استقلاليته الحقيقية والفعلية حتى عن الأحزاب وعن ذيليته لها، وطالبنا بالعمل الجماعي على تهييء التصور الثقافي الذي يخدم الثقافة والإبداع المغربيين. كما أكدنا مرارا أن مشكل الجمعية ذات النفع العام، رغم أنه كان مطلبا مشروعا، لن يحل مشاكل الاتحاد البنيوية. بل إن حصوله على تلك الصفة لم يعمل سوى على تفاقم مشاكله بصورة لم يسبق لها مثيل. هل كل هذه الصيرورة وما صاحبتها من مشكلات وليدة قدر يصاحب الكتاب؟ أم هي ضريبة ارتباطه بالمعارضة وما عرفته هي أيضاً في صيرورتها من مشاكل وتمزقات؟ أؤكد أن جزءا كبيرا من ذلك يعود إلى الكتاب أنفسهم، وأن جزءا آخر يؤوب إلى ذلك الارتباط: تشكيلة المكاتب المتعاقبة كانت تتم في ردهات الحزب ومن خلال «توافقات» الأحزاب الأخرى التي لا تفكر بدورها سوى في أن يكون لها حضور. وكان الكتاب في مؤتمراتهم يصوتون على تلك التشكيلات المتفق عليها. وبما أن كعك الاتحاد من عجين تلك المعارضة، كان جزء هام، بشكل أو بآخر، من الكتاب من طينة مناضلي تلك المعارضة. وبما أن كعك هذا العجين لم ينْم إلا في تربة تلك الطينة، كان لزاما أن يصيبهما وابل فطَل فإعصار ظلت صورة الاتحاد متخذة هذا الإطار، رغم تبدل الزمان، لأنه ظل عبارة عن»جمعية»، كما أن الحزب في ثقافتنا المغربية «جمعية». والتصور الذي ظل يحكم «الجمعية» في متخيلنا السياسي والثقافي المغربي، لأسباب تاريخية، ذات بناء هرمي يحتل فيه «الرئيس» أو «الزعيم» رأس الهرم. ويسنده في ذلك «مكتب مركزي» أو «مكتب سياسي» يتشكل في لحظة تأسيس الجمعية من «المؤسسين». وبمقتضى ذلك، تكون «الجمعية» في «ملكية» المؤسسين يعضون عليها بالنواجذ إلى أن يتوفاهم الله، أو أنهم يتركون رئاستها لمن يواليهم ويسير على هدى خطهم. وبما أن الجمعية تتأسس من رأس الهرم، فهي في حاجة إلى قاعدته. وهذه لا يكون لها من دور غير تزكية الرأس، والانضباط لقرارات «الهيآت العليا». في كل تاريخ الاتحاد كانت الفروع مشلولة، وقلما كان فرع ينشط بصورة دائمة ومتواصلة. وكان اتحاد كتاب المغرب ليس سوى المكتب «المركزي». فهو الذي يصدر المجلة والمطبوعات وينظم الأنشطة الأساسية. أما الفروع فليست سوى «ظل» للمركز. عندما فكر الإخوان في فرع فاس إصدار «مجلة « بالستانسيل سنة 1976 وعملوا على تسميتها «أفق»، اعتبرها «المكتب المركزي» منافسة للمركز، وادعى أن فيها تبديدا للجهود التي ينبغي استجماعها لتصب في «آفاق». هذه «المركزية» تعبير عن التصور الذي كان يحكم العلاقة بين رأس الهرم وقاعدته. وهو ينم عن متخيل سياسي وثقافي في تقاليدنا. فالجمعية ملكية للمؤسسين والموجهين: هم دماغ العمل ومادته الرمادية. أما الآخرون فينبغي أن يكونوا أتباعا وإلا فهم خصوم بل أعداء. هذا التصور حكم كل الجمعيات وكل «المجتمعات» المدنية وغير المدنية. وشمل كل المجالات، في السياسة والثقافة والرياضة والفن والدين،،، فكانت ممارساتها «جمعوية» واقعا وتصورا ولغة. العمل الجمعوي نقيض العمل «الجماعي»، وبما أن كل تاريخنا الحديث كان»جمعويا» لم تتشكل عندنا تقاليد وثقافة العمل الجماعي، بل إننا نكفر بالعمل الجماعي، ولا نعترف به، لأننا نرى أن على الآخر أن يكون تابعا ومنفذا وطائعا لا مشاركا ولا فاعلا، فغاب الإبداع وضمر الخيال، لأن «الرئيس» – الزعيم – الأب الروحي- المؤسس هو المسؤول عن التفكير والتخطيط والتدبير. الربيع العربي جاء ليقول «ليسقط الفساد». ومن بين حمولات هذا الشعار ذهنية «الجمعية» ومتخيلها، لأنها وليدة تاريخ لم يبق ما يسوغ بقاءه، فهل يعي الكتاب والمثقفون أهمية هذا النداء وينخرطون «جماعيا» لا «جمعويا» في ترجمته من خلال تصور ثقافي جديد يعطي للثقافة حضورها في المجتمع من منظور العمل الجماعي لا الجمعوي؟ هذا هو السؤال الجوهري، وإلا فما أسهل انتخاب مكتب «مركزي» يعيدنا إلى التاريخ الشتائي الطويل.
اتحاد الكتاب… من العمل الجمعوي إلى العمل الجماعي
حديث الصباح:
صار الاتحاد يضم أجيالا من الكتاب لا تجمع بينهم سوى بطاقة عضوية لا تخول لهم إلا حضور المؤتمرات
الصباح : 18 – 04 – 2012