سعيد يقطين
- 1. صورة الفنان الشعبي الأصيل:
تعرفت على محمد رويشة في بداية السبيعينيات من خلال أشرطة مسجلة بطريقة هاوية. وكان وقتها مغني والحجاوي معروفين، ويمكن الحصول على أشرطتهما من فاس الجديد والملاح. أما بناصر وخويا وحادة وعكي فقد كان لا يخلو بيت من أغانيهما. انبهرت بصوت رويشة الهادئ الرزين وعزفه على الوتر بشكل احترافي راق مما جعلني أتوقع له موقعا متميزا في الإبداع الشعبي الأصيل.
لقد ارتقى محمد رويشة بالفن الشعبي إلى مرتبة عالية بتطويره أداء الأوتار (الكَنبري) ليصبح بذلك أداة موسيقية راقية، ناقلا إياه من وسيلة للتكسب في الحافلات والناقلات العمومية والأسواق الشعبية إلى ما وراء الميكروفونات العالمية. وبذلك شنف أسماع هواة الموسيقى في المغرب وخارجه بنغمات تسمو بالفن الشعبي إلى مراقي الفنون العالمية. ما كان ليتأتى لرويشة تحقيق هذه الصورة الجديدة للفنان الشعبي لولا توفره على المقومات التالية:
أ. حبه لـ، واعتزازه بهذه الآلة الشعبية المغربية الأصيلة، وعدم بحثه عن آلة وترية بديلة. فكان اتصاله بها وثيقا جسديا وروحيا وطوال حياته.
ب. تشبعه بالفن الشعبي المغربي الأصيل أمازيغيا كان أو بالدارجة المغربية، سواء على مستوى الإبداع الموسيقي أو الأداء اللغوي. فقدم بذلك أغاني رائعة بتمازيغت أو بالدارجة من ذخيرته الفنية، من جهة، أو من إبداعاته الشخصية من جهة ثانية.
ت. عمله الدائم على تطويرأدائه وإبداعه وثقافته بمواكبة ما يجري من حوله والتفاعل معه بشكل إيجابي.
ث. تمسكه بالأخلاق والقيم المغربية الأصلية. ففي كل البرامج والحوارات التي شاهدته فيها كان ينم عن تواضع شديد وحياء منقطع النظير وهدوء يكشف عن شخصية فذة. ويبدو كل ذلك في أدائه الفني الذي كان يسمو عن سفاسف الأقوال والتصرفات التي نجدها لدى بعض الفنانين.
كل هذه المقومات وغيرها تجعلنا فعلا أمام فنان شعبي راق كسب حب الشعب وتعاطفه، وهو أيضا كان يبادل الشعب التعاطف والحب نفسه. لذلك صار نموذجا للفنان المغربي الأصيل. وصار مضرب الأمثال في العزف على الأوتار، حتى أن امرأة سجلت أغانيها، وهي تعزف على الكَنبري، تحمل اسم “فاطمة رويشة”. فمن يعرفها؟
2 . ثقافتنا الشعبية : إلى أين؟
صورة الفنان الشعبي الأصيل، لرويشة وقد صارت ظاهرة جلية ومشهورة داخليا وخارجيا، تخفي صورا للعديدين من أمثاله المتفرقين في الدواوير والمداشر المغربية الدانية والقاصية والمترامية الأطراف، والذين لا يعرفهم أحد على الصعيد الوطني. إنها صورة الفنان الشعبي الذي يمثل الوجدان والذاكرة والمتخيل، ويظل يرتبط بحياة الناس اليومية، ناقلا أتراحهم وأفراحهم، موقعا إياها بيديه على بندير أو دف أو تعريجة، أو برجليه على قعدة صابون.أو منقرا على كَنبري أو جارا قوس كمنجة أو رباب، أو نافخا أعماق النفس المهمومة في غيطة أو ليرة أو مقرونة، سارقا بذلك من الزمن القاسي، فرحة جميلة في لحظة نادرة، أو محملا بذلك هموما مستديمة في تعبير موجع وإيحاء عميق.
هذا الفنان الشعبي المتصل بالشعب لا تعرفه ميكروفونات التسجيل ولا قاعات التصوير ولاتكتب عنه جرائد هذه الأيام، ولا تلتفت إليه الموجات ولا القنوات “الجهوية” و”الوطنية”، ولا وزارات الثقافة ولا نقابات الفنانين، سيظل موجودا رغم التهميش والإقصاء لأنه وليد تربة المعاناة الدائمة والمستديمة. سيظل هذا الفنان يجوب الشوارع والأسواق الأسبوعية والحافلات والناقلات ناقلا تراثا ينبض بالحياة، ومتسعا لقلوب الفئات الشعبية التي تتواصل وتتعاطف معه، وستظل تذكره في حال الوفاة في ذاكرتها الجماعية الحية.
كل الفنانين الذين شاع ذكرهم، وانتقلوا من الظل إلى نور آلات التصوير، هم بكيفية أو بأخرى سليلو هؤلاء الفنانين الشعبيين
الذين لا يذكرهم أحد. منهم تزودوا فن الإضحاك العفوي البسيط، والأداء الفني المرتجل، قبل أن “يطوروه” ليصبح قابلا لخطف لحظة في قاعة تصوير أو استديو قناة. فمتى يتم الانتباه إلى هذا الفنان الشعبي البسيط؟
لقد نجح رويشة بعبقريته في الانتقال من الشعبي البسيط إلى الشعبي الراقي بجرأة وإبداع وثقافة أهلته للانتقال من الفضاء الشعبي الضيق إلى الفضاء الوطني الواسع. فهل يكفي أن نذكره الآن بمناسبة رحيله الجسدي عنا لننوه بدوره الكبير في إثراء ثقافتنا الشعبية؟ أم ينبغي أن يشكل ذلك مناسبة لترهين الحديث عن واقع وماضي ومآل ثقافتنا الشعبية التي ظلت مهملة ومقصاة من دائرة الاهتمام؟
لا يكفي أن نرثي موتانا الذين تركوا بصماتهم في حياتنا. فهذا النوع من الرثاء إقبار ثان لهم. وبدل هذا الإقبار علينا تحويل موتهم إلى حياة، عن طريق تخليد ذكراهم من خلال أعمال جليلة تتمثل في اتباع استراتيجية جديدة للتعامل مع الثقافة التي أنتجوها. ولعل الثقافة الشعبية المغربية في حاجة إلى التفاتة حقيقية لا مناسباتية من لدن كل الفاعلين والمسؤولين في قطاع الثقافة. إن الثقافة الشعبية المغربية التي ساهم رويشة في إثرائها بإبداعاته العبقرية جزء أساسي بل جوهري من الثقافة الوطنية، وبدون الارتقاء بها إلى المستوى المطلوب ستظل ثقافتنا ناقصة وعاجزة عن التطور والتقدم.