قراءة في كتاب: “الكلام والخبر” لسعيد يقطي
د . شرف الدين ماجدولين
1-النص الأكبر والتكامل التراثي.
2-النص الثقافي ومبدأ التفاعل.
3-بين النص والنصية: نحو مجاوزة اللانص.
يكاد يجزم المتتبع للأطروحات النقدية، المنشغلة بالتراث السردي، أن كتاب: “الكلام والخبر”(1) لسعيد يقطين، يشكل إحدى أخطر المحاولات التحليلية للسرد القديم، في العشرين سنة الأخيرة من القرن الماضي. ومرد ذلك -فيما نتصور- إلى كونه يرتكز على محكاة إشكالية تنطوي على طاقة ربط جدلي فعال بين الخاص والعام في حقل الإبداع العربي، وبين ذلك العام الأدبي والأعم الثقافي، في السياق الذي يضمن اطراد التفسيرات المعرفية والتاريخية لتكامل الـمُنتَج النصي التراثي، ووحدة مفاصله وتلاحم تجلياته. لاجرم إذن أن تنبني خطة الكتاب على منطلقات نظرية، وخطوات تحليلية، تصل العناصر التكوينية للنوع المفرد -وهو في هذه الحال “السيرة الشعبية”- بالبنية الكلامية الحاضنة، وتقاليدها”التأليفية”، وبما يتفرع عن أصلها الجامع من تخصيص جنسي (السرد/الخبر)؛ وتربط كل ذلك بالتجليات النصية المفردة. بالوسيلة التي تُجلي تفاعلات النص القديم “المكتمل”، بخبرات الحاضر الممتد. وتشج الدوال السيرية الشعبية الثابتة، بمدلولاتها المتحولة، عبر الأزمنة التاريخية المتعاقبة، والجغرافيات المتباعدة.
وأحسبني لن أجانب الصواب، في شيء، في الاعتقاد بأن امتدادات التأثير النقدي لكتاب “الكلام والخبر”، لا تنحصر في نطاق القيمة المنهجية لسؤال السيرة الشعبية ونضحه الرؤيوي الذي يعمق من إنجازات “السردية العربية” المعاصرة، وإنما تطول بحدوسها التأويلية واقع الدرس النقدي العام، في محاورته لمنطق التراث، واستقصاءاته لمناحي تبنيُنه وأعطاف تفاعله، بما هو منجز نصوصي أولا، ثم بوصفه قيما ثقافية متعالية، ونسقا عقليا مجردا، محكوما بالائتلاف على جهة الضرورة التاريخية والحضارية، ومجبولا على الاختلاف على جهة الحرية الإنسانية. ولعل خطورة التأثير تتضاعف إذا نفذ إلى يقين القارئ أن وشائج الجدل المفاهيمي المولِّد بين الكل والجزء التراثيين، أو بتعبير أدق بين النص المنجَز ونسق الإنجاز الثقافي، لا تبتعد كثيرا عن سؤال الماهية الجمالية، وعناصرها التكوينية في السياق الحاضر؛ وإنما يتولد الفارق، وتتسع مساحات التعقيد في أطوائه، بالنظر لما يلزم عن الزمن التاريخي والمعرفي -الفاصل بين الخبرة والوعي المعاصرين والأفق التراثي- من اتساع في مباني النصوص، وثراء في مكونات أجناس القول، وخصوبة في توالد أنواع التعبير، وتبدل في أنماط الإنجاز النصي. والحال أن المقترح النظري للباحث، يفلح في تخطي ذاك التعقيد، حين يرى إلى نص السيرة الشعبية، من حيث هو عنصر في نص عربي كلي، وحلقة في نظام كلامي عام، تتساند مكوناته، بصرف النظر عن طبيعة النصوص المفردة وإطارها الزمني، فهي بمنزلة الحصيلة (الإبداعية) من المؤسسة (الثقافية)، وبمثابة التجلي الفرعي من أصل التشييد.
إلا أن الإضافة الحقيقية التي تميز الدراسة الحالية عن سالفاتها في النظر النقدي للتراث -وتبلور قيمتها الاستثنائية في آن- أنها من الأبحاث النادرة التي انطوت على وعي جذري بمفهوم ” النص”، ودلالاته المعرفية، وأبعاده النظرية، في النظر إلى التراث. بالقدر ذاته الذي مثل “النص”، في نطاقها، معيارا إجرائيا حاسما في استيضاح عناصر الوجود الكلامي، والتحقق الإبداعي العربي القديم. في السياق الذي يصير فيه التخصيص النصي بديلا عن التعميم القولي، و”تكامل” النص رديفا لقيم “التفاعل” التكويني، و”التحقق” المتغاير، و”التجلي” المنفتح على الحتمالات. وبالمعنى المركب الذي بجعل النص كونا رمزيا يتدرج من مستوى “أكبر” إلى عينة صغرى، تمتح من الأشباه والنظائر مقومات الجنس والنوع والنمط. ويجعل القيمة “النصية ” فعالية رمزية تتخطى التصنيفات المعيارية لتجليات الكلام (بين الفصيح والشعبي، والمحمود والمرذول، المركزي والهامشي..). وحيث يصير الوجود النصي علامة على امتداد تعبيري لا تمييزا لصنف خاص منه، وكيانا نقديا وظيفيا في استنبات الأسئلة والتآويل والرؤى. لذا ليس غريبا أن يلفت انتباهنا سؤال النص -أكثر من غيره- في هذه الدراسة، على غنى منطلقاتها النظرية، وآلياتها الاستنتاجية، ومآربها المنهجية، وأن يشكل مرتكز القراءة في هذا المقال.
1-النص الأكبر والتكامل التراثي.
هكذا تنطلق منظومة البرهنة من افتراض منهجي مفاده أن الثقافة العربية القديمة -ومنها السير الشعبية- كل متكامل، ووجود متفاعل، ترتد في بنيته الأصول على الفروع، والأطراف على المراكز، والأجزاء على الأنساق. وتنجدل في ماهيته عناصر التاريخ، بالجغرافيا، بالوعي الجماعي، بقيم التعبير الأدبي والعلمي والعقدي. وتنتظم حقوله تقاليد خاصة، تضمر “مبادئ” ثابتة، و”مقولات” متحولة، و”تجليات” متغيرة. والقصد من وراء هذا الافتراض بيان أن التراث مؤسسة موصولة الأعطاف، متراكبة الحلقات؛ كل نظر إلى فرع منها يستوجب الإحاطة بتفاعلاته، في ذاته، ومع محيطه؛ أو بتعبير آخر يستلزم أخذ هذا الفرع بما هو تجلّ نصي، تحكم وجوده الذاتي مكونات بنيوية: منها اللازم الذي تختص به عن باقي البنيات، ومنها المتعدي الذي يصِلها بمجرىالتراث العام. من هنا كان لمفهومي: “النص الأكبر” و”النص النموذج”، أهمية الدال الحصري الذي يفسر المدلولات الممتدة والمتراكبة في الأزمنة والفضاءات المختلفة. يقول الباحث بصدد المفهوم الأول:
“إن ما أسميناه النص الأكبر، ونحن نتحدث عن العرب هو ما ساهم فيه كل منتج بالعربية بغض النظر عن نوعه وقصده. أما التجليات النوعية القابلة للتقاطب إلى ثنائيات كيفما كانت طبيعتها أو وظيفتها، وفي أي عصر فليست سوى “تجليات” ملموسة، تتجسد من خلالها بعض مقومات النص الأكبر، بما هو تمثيل للعقلية والذهنية العربية العامة. وأي اعتماد على بعض هذه التجليات، ومحاولة استخلاص صورة الإبداع أو العقل أو الفكر العربي برمته فليست سوى اجتزاء لعناصر من بنية الأصل، وتقديمها على أنها هي الكل”(ص 64).
ولعل ما يضع الدلالة النقدية لمفهوم “النص الأكبر” في مستواها التجريدي، غير المناقض للتحققات، أنها تجري في توسلها اللفظي مجرى الاستعمال المجازي، فلا يقصد بالنص الأكبر المعنى الوضعي، الذي يفترض وجودا ظاهريا ما، وإنما تنصرف العبارة للتدليل على قيمة علاقات الترابط والتركيب والتكامل، ذات الخصيصة النسقية المتصلة بكل ما يفترض أن يتضمنه التراث القديم: سردا وشعرا وخطابا علميا وفقهيا وفلسفيا. فتنشأ من حاصل تلك العلاقات، بأصنافها المختلفة، ظاهرة كلامية تضمر الوحدة وتبذي الاختلاف. ولذا كانت أقرب التصنيفات دلالة على آلية الجدل بين الوحدة المستترة والاختلاف الظاهر تلك التي اخزلها الاقتباس في مقايسة النص الأكبر (الدال على الوحدة) بتجلياته الجزئية (الرامزة إلى الاختلاف الجنسي والنوعي والنمطي). ونظن أن البعد المجازي للعبارة في سياقها الراهن لا يناقض قصدها البرهاني في سياق لاحق، حين تلحق بمفهوم النص صفتا “التعالي” و”النموذجية”، بحيث تنزاح الدلالة العامة بدرجة نحو التخصيص، فتقرنه بالنص القرآني، في الإطار الذي يضع هذا الأخير في قمة البناء الهرمي للنصوص العربية؛ بحيث تقع منه موقع الفروع المتحولة من الأصل الثابت، أو التجليات الناقصة من المبدأ الكامل. يقول الباحث في تعليقه على بعض آراء القدماء بصدد تقسيم الكلام:
“إن النص القرآني كان بشكل أو بآخر النص النموذج الجامع لكل الاجتهادات والتصورات. فهو نص متعالي على كل النصوص التي أبدعها العرب في كل الأجناس والأنواع، بل وفي مختلف العلوم… ولا غرابة في ذلك فهو كلام الله. أما كلام العرب فلا يمكن أن يمثل إلا بعض العناصر المستنبطة منه”(138-139).
نموذجية القرآن أو تعاليه عن التحققات المتباينة سمة تفسر انتظام الكلام العربي القديم في أفق السعي إلىمحاكاة كمالٍ ناجز سلفا: على جهة الفعل (أولا) باعتبار تحقق الكلام الإلاهي في لفظ عربي مبين، بما يتيسر معه تمثيل صفات “الإعجاز” البياني وتخييلها للأفهام،وثانيا على جهة القوة بالنظر إلى كون الكلام الإلاهي نص جامع لمفاصل الخطاب العربي، يتعالى على أجناسه المختلفة وأنواعه المتعددة (أخبارا وقصصا وأمثالا، ورؤيات…)، ويحيل على شتى صيغه وأنماطه (إنشاء وخبرا وتعجيبا، وتغريبا، وتفكيها، وترغيبا وترهيبا…). وما اجتماع صفات القول المتعددة، وائتلاف أجناسه الثابتة، وأنواعه المتحولة، بين دفتي كتاب جامع، إلا دليل على مثاليته، التي تتخذ بعد الغاية من مبدإ القول، والطموح من حوافز البيان، ومن ثم يغدو بدهيا تفسير تلاحم أغراض الكلام وفنونه في التصنيفات الموسوعية، كما يضحى يسيرا البرهنة على عقم التأويلات الذاهبة إلى قراءة أحد أضرب الإبداع التراثي بمعزل عن امتداداته. وهكذا تُردُّ تصانيف اللغة على تآليف العلوم العقلية، وهاته على تلك التي تختص بآداب الحديث والأخبار والأشعار والمسامرات، في السياق الذي ترتبط فيه العلل بالمعلولات، والأصول بالفروع، والثوابت بالامتدادات. ومن هنا تكمن قيمة مفهوم “المجلس” أو الإبداع المجلسي” في كتاب “الكلام والخبر”، من حيث إنه الإطار الاجتماعي الذي ينتظم تداول أقسام الكلام وأجناسه، وبالنظر إلى كونه السياق الثقافي الذي “يؤلّف” تركيبة النص العربي، المختلف الصيغ والأجناس والطبقات.
2-النص الثقافي ومبدأ التفاعل.
ولأن “النص الأكبر” افتراض ذهني قصاراه مجاوزة الظلال التعميمية التي يستدعيها مفهوم “التراث” في التداول العام، ولما أنه ماهية نسقية وازعها النظري العمل على استيضاح التشييد الناهض بقيم الخلق، وصيغ الأداء، وضروب التأليف التراثي؛ بات من باب البداهة العقلية اعتبار المنجز النوعي الخاص، في السياقات الجنسية المختلفة (الشعرية والسردية)، منتَجا نصيا محكوما بضوابط النص الأكبر، في بنية أدائه، وطرق تكوينه. وأضحى هذا المنجز الخاص -من ثم- عنصرا في نسيج عام، وتجليا لمبدإ ثابت، فلا تستقيم أسباب الأخذ به إلا بإحكام النظر في أصوله وسياقه؛ والحاصل أن النص السيري أو الخبري أو المقامي أو الشعري بأنماطه الجدية والهزلية أو غيرها، إنما هو تفريع للنص الأكبر، وتنويع على النص النموذج، إنه في النهاية “نص ثقافي”. يقول الباحث، في معرض بيانه لمسوغات البحث في نوع السيرة الشعبية العربية:
“السيرة الشعبية نص ثقافي: ويتجلى ذلك في كونها، وهي تتأسس نوعا سرديا له خصوصيته، تنفتح على مختلف مكونات الواقع العربي، وثقافته، وتقدم لنا نصا يتفاعل مع مختلف ما أنتج الإنسان العربي في تاريخه… ” (ص9).
هكذا يمضي سعيد يقطين في تدعيم علاقات اللزوم البنيوي للنص، بأواصر التعدي، مستبدلا مبدأ الماهية النصية المستقلة بوقائع التمثيل والإحالة المفتوحة على مراجع الحس والذهن. ولا يعزب عن الفهم، في الصدد ذاته، أن اختيار السيرة الشعبية إطارا لتظهير فعالية “النص الجامع” -بما هو “نص ثقافي”- لا يقصد إلى تخصيص هذا الجنس بتلك الفعالية وحده، بل يهدف إلى التمثيل الذي يسمح باستخلاص النسق الخفي المتحكم في عموم الأداء الخبري في التراث السردي. فمبدأ الانفتاح قائم، في كل الأحوال، وتجليات التعدي إلى الواقع الثقافي العام ثابتة. ولا مندوحة من ربط النص -سيريا كان أو مقاميا، خبريا أو شعريا- بمنظومة التأليف الكلامي الموروث، وببنيات التحول فيه، وبتجليات المغايرة بين أنماطه. وإذا كان لنص السيرة الشعبية من خصيصة فارقة في هذا المضمار، فهي اقترابه من النموذج التصنيفي القائم على “الإحاطة ” بأقاصي الممكن من الأجناس الكلامية (شعرا ونثرا) والأنواع السردية، والأنماط التأليفية (جدا وهزا وتغريبا وتعجيبا)، بحيث تغدو مهمة التثبت من فعالية “النص” في مد صلات الجدل مع النشاط العقلي العام يسيرا، وتضحى عملية ربط العلل بالمعلولات سائغة ومؤثرة. فلا يخلو نص سيري بأنماطه المختلفة من خبرة إنسانية، طافحة بالإحالات على التاريخ والجغرافيا، والخطوب وأحوال العلاقات بين الأفراد والجماعات، وصيغ النظر إلى الغير الحضاري والعقدي، ومشاهد البطولة والحب والاغتراب، وغيرها من المكونات التي تدعم التخييل السيري في تدافعه نحو التنامي والتوالد، وترفد البنية النصية بأسباب “تمثيلها” ووسيلة جدلها مع المحيط.
والهدف -فيما نتخيل- من نحت وصف “النص الثقافي”، في سياق الأسباب التي نوهنا بها آنفا، هو فضلا عن تحصيل الانتقال من مفهوم “التراث” العام إلى مفهوم “اأنص الأكبر” ثم “النص النموذجي”، التوطئة لبيان مركزية مبدأ “التفاعل” في النظر إلى النص التراثي، وتداوله، وتفسيره؛ فالنسق الثقافي الموصول بنص ما ليس بنية مجردة، أو ماهية متعالية، غير قابلة للمقاربة، وإنما هو محيط من النصوص المتراكمة في الزمن، والمسافرة عبر الفضاءات والأذهان والبيئات الاجتماعية. والنص حين يوسم بكونه منجَزا ثقافيا فكيما تستجلى قيم تفاعله الذاتي مع نظائره في نطاق الجنس المفرد، ومع محيطه النصوصي المنتج في شتى سياقات المعرفة التراثية، ومن ثم:
“إذا كان البحث في نص معين، كما تقتضي ذلك أية نظرية للنص، يتم من خلال جنس نصي خاص، فإن نظرية التفاعل النصي تتيح إمكانية التعامل مع النص من جهة “تفاعله” مع نصوص أخرى من أجناس مختلفة، ظهرت في الفترة نفسها أو في فترات سابقة أو لاحقة… وهذا العمل علاوة على كونه يسمح لنا بالنظر للنص في ذاته، يتيح لنا إمكانية النظر إليه في مختلف علاقاته مع نصوص أخرى، ومع السياق الاجتماعي والثقافي الذي ظهر فيه”(ص50).
3-بين النص والنصية: نحو مجاوزة اللانص.
يتبلور الموروث الثقافي، وفق هذا المنظور، على قاعدة من المنتوجات اللفظية، التي تشكل فيما بينها كونا من النصوص، المتصلة ببعضها بصلات الترابط والتساند والتكامل. بيد أن وجود هذه النصوص تاريخيا، وتواترها كتابيا أو شفاهيا، لم يكن كفيلا وحده بإكسابها شرعة التداول النقدي والمعرفي، في السياق الذي لا تقتصر فيه على الحضور، بل الفعالية والاعتراف بقيمها المعرفية و الجمالية. بتعبير آخر إن التراث القديم، كما وصلنا، لم يكن يثوي في أطوائه عوامل تآلفه الذاتي (الثابت)، بل أسباب انفصامه؛ وذلك بفعل هيمنة نظرة معيارية ترى إلى رصيد ضخم من التصانيف -من مثل القصص الخرافي والعجائبي والشطاري، وسرود الهزل ةوالبطولات، وأخبار الحمقى والظرفاء والمغفلين، وحديث الزنادقة والباطنية والنحل المارقة، وغيرها- باعتبارها ضربا من الفعالية الكلامية المرذولة، وصنفا من التأليف غير الجدي، الذي لا يليق بجمهرة الآخذين بعلوم اللغة وفنونها، استحضارها على جهة التمثيل والاستشهاد، ناهيك عن إعمال الفكر فيها بقصد الكشف عن “سر صناعتها” وسبر “وجوه بيانها” والتعريف بنمط برهانها. وسيترتب عن مثل هذا التناول منزع فكري يجزئ النص التراثي إلى قسمين: أولهما شرعي /جاد / نافع/ محمود/ فصيح… والثاني: متهم/ هزلي/ ضار/ مرذول /عامي… والحاصل أن الشق الثاني بات خارج نطاق النص الأكبر، وعلى هامشه النظر إليه، في آن، فكان من المستساغ وسمه -كما ذهب الباحث- ب”اللانص” (أنظر الصفحات:51، 52، 57، 58، 62).
والظاهر أن من بين العوامل المركزية التي ساهمت في نشأة ظاهرة اللانص عدم الاحتفاء بقيمة “النصية”، بما هي حصيلة للخبرات الأسلوبية، والجمالية، والبنيوية، الوظيفية، المتضامنة في تحقيق أدبية نص ما، وطبع مكوناته التعبيرية بسمة التميز والفرادة. إذ لو تم الاعتراف بالقيم المفترضة لأي نص، مهما كانت مرتبته في المنظومة الثقافية، وأيا كانت صيغة أدائه (الكتابية أو الشفاهية)، وبصرف النظر عن منحاه البلاغي، لتم تجريد الموروث النصي من الإسقاطات القيمية المتحولة بحسب الأزمنة والفضاءات، والمتغيرة بتغير الخبرات والأذواق. وعليه لن يكون لمفهوم “النصية” من قصد إلا توطئة الانتقال من القراءة التجزئية إلى النظر التكاملي، في أفق مجاوزة مأزق اللانص في الموروث القديم. يقول الباحث:
“نستعمل مفهوم النص استعمالا جديدا يخرج به عن الاستعمالات القديمة. وما يمكن أن يوحي به توظيفنا هنا هو أنه يتجسد من خلال “النصية” التي تجعل من إبداع لفظي ما ذا درجة من الحظوة والقبول لدى التقليد الأدبي أو الرأي العام الأدبي المهيمن في حقبة من الحقب. وبحكم هذا الموقع يكون له دور النموذج والمؤثر في باقي الفعاليات النصية التي تنتج في نطاقه، أو تدور في فلكه” (ص51-52).
بتعبير آخر يمكن اعتبار “النصية” استثمارا لثوابت الجنس ومكونات النوع وسمات النمط في تشغيل إمكانيات الكلام، فتصير النصية الناجحة هي تلك القادرة على ابتداع معادلة مثلى في هذا الإطار من الضوابط والمحددات، وتتحول، من ثم، إلى نموذج متعال، يرسم المعالم التقريبية (الجنسية والنوعية والنمطية) للنصوص اللاحقة. بيد أن المعضلة لا تكمن في طبيعة هذا الافتراض بصدد ماهية “النصية”، بل بصيغ تداول تلك الماهية في الزمان، وما ينشأ مع تباعد الحقب الثقافية، وتبدل قيم التلقي من تحول في طبيعتها. ذلك أن الخبرة الجمالية المعاصرة (مثلا) التي تدين بأصولها لزمن إبداعي وثقافي تلا بعقود وأجيال (ثقافية) الخبرة النصية التراثية، غير ملزمة بأخذ المعايير القرائية من النظر المأثور، بل هي مطالبة بالأخذ بالتقاليد الناشئة عن تفاعلها مع النصوص المعاصرة، والسعي من ثم إلى قراءة النص التراثي من أفق الانشغال المعرفي والجمالي الحاضر. وهكذا تبقى “النصية” مرتبطة بالزمان وتخضع لضرورات التحول و التغير تبعا لتقلبات الأحوال والمحيط، بينما النص (“سيرة عنترة” مثلا) يمثل وجودا ثابتا، ولا يفارق ثباته إلا بتحوله إلى “تجليات من القيم النصية” الفاعلة في توليد نصوص أخرى مشابهة، تمتح منه المبادئ الثابتة، والمكونات المتحولة، و التجليات المتغيرة. ومن ثم بات بدهيا أن:
“نجد النصية تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة، لكن ما يتغير فعلا ليس النصية في ذاتها، ولكن تجلياتها العملية، والمفاهيم التي بواسطتها نرصدها… ونحن عندما نقرأ الآن إليادة هومروس والقرآن الكريم ومعلقة امرؤ القيس قراءة جديدة فذلك لأننا… نريد أن نجلي نصية جديدة بناء على ما يقدمه لنا السياق الذي نعيش فيه”(ص48-49).
من هذا المنطلق حاول الباحث إعادة النظر في علاقة النصوص المركزية بنظيراتها الهامشية، مقترحا نقلة نوعية في الفهم والتفسير، تلغي مساحات اللانص في التراث القديم، وتنظر إلى الأفق العام من قاعدة النسقية، بالنهج الذي تنتطم فيه مفاهيم “النص الأكبر و”النص النموذج” و”التفاعل النصي” و”النصية” ضمن شبكة دلائلة منسجة ووظيفية، تحيل كل حلقة فيها على البناء الكلي، بشكل جدلي يسمع بإعادة النظر في الموروث السردي، ويكفل -في الآن ذاته- تجديد آلية القراءة والتفسير النظريين بصدد مفاهيم: “الجنس” و”النوع” و”النمط”، سواء كما رسخها النظر النقدي والبلاغي المأثور، أو كما تحقق بالفعل في الكلام الترثي.
لقد أراد سعيد يقيطين من كتاب “الكلام والخبر” أن يشكل مقدمة لفهم السرد العربي، كما أراده خطوة تنظيرية تحاول حل عدد من الأسئلة الجوهرية بصدد السردية العربية عموما، وبصدد نهج “السرديات” بشكل خاص؛ سواء على جهة اختصاصها بالمادة الحكائية، أو بالخطاب، أو بالنص. غير أن الكتاب لا يقف عند حدود ضبط معايير التمايز بين أنهاج تلك السرديات المختلفة، وتدقيق النظر في حقول اختصاص كل منها، بل يتخطى ذلك إلى محاولة بناء تصور جديد للأجناس التراثية بأنوعها وأنماطها المختلفة، واصلا كل ذلك بفهم مغاير للنص والنسق الثقافي؛ وذلك من خلال معادلة : “المبادئ” بالأجناس، و”المقولات” بالأنواع، و”التجليات” بالأنماط، في مستوى أفقى؛ تم واصلا الجنس بالقصة، والنوع بالخطاب، والتجليات بالنص، في مستوى العمودي؛ على اعتبار اقتران الدوال الأولى(الجنس/ المبادئ/ القصة) بقيم “الثبات” والثانية (النوع/المقولات/ الخطاب) بقيم “التحول” والثالثة (النمط/ التجليات/ النص) بقيم “التغير”، في سيرورة جدلية مستمرة. وهي معادلة تحقق الانسجام النظري المطلوب للانتقال إلى أي تحليل تطبيقي يتناول مختلف الأجناس السردية، وليس فقط “السيرة الشعبية” (التي خصص لبنياتها الحكائية كتابا بأكمله: هو “قال الراوي”)، كما تكفُل انسجاما عز نظيره في النظر المعاصر إلى قضايا الأجناس التراثية، مما يجعل الكتاب نصا مركزيا في النقد العربي المعاصر ، سيمتد بتأثيره لسنوات عديدة قادمة.
——————–
(1) صدر عن المركز الثقافي العربي، بيروت- البيضاء، 1997.