ترجمة محمد معتصم
تقديم : سعيد يقطين
1 . 1. سررت كثيرا لإقدام الباحث الزميل محمد معتصم على ترجمة هذا الكتاب ، وذلك لاعتبارين اثنين : يكمن أولهما في كونه امتدادا وتوسيعا لكتاب جيرار جنيت السابق الذي قام بترجمته مع الباحثين عبد الجليل الأزدي وعمرحلي (1). وهو بهذا الصنيع يصل الكتاب بأصله، ويربطه بسياق تطوره ، ويواصل بذلك عمله بعشق ورصانة وصبر . والثاني أن لهذا الكتاب قيمة خاصة في مجال السرديات التي صارت مع هذا الكتاب وأصله علما أدبيا خاصا بدراسة السرد .
1. 2 . لقد تأخرت ترجمة الكتابين معا إلى اللغة العربية كثيرا ، رغم أن الاستفادة منهما بأشكال وصور متفاوتة ظهرت في العديد من الأعمال النقدية العربية المعاصرة . وأهمية الترجمة تأتي في المقام الأول لتقدم للباحث والمهتم صورة الأثر بكامله ، فتيسر له فهم ما غمض في الأعمال النقدية التي تعتمد للضرورة شواهد أو مقاطع خاصة . ورغم مرور الزمان على الكتابين معا ، فإنهما يظلان راهنين لأنهما يسجلان حقبة مهمة في تاريخ الفكر السردي الحديث والجديد . وعلى غرار ترجمة الكتاب الأول ، يمكن لترجمة هذا الكتاب أن تساهم في توسيع النقاش حول السرديات وإجراءاتها ومصطلحيتها التي ما تزال وستظل تثير الكثير من السجال والخلاف . ولا يمكن والحال هذه إلا تثمين الصنيع الذي أقدم عليه الباحث محمد معتصم لما له من فائدة ولما يسده من فراغ كبير في حقل الدراسات السردية العربية.
1. 3 . إن عودة محمد معتصم إلى “خطاب الحكاية ” يؤكد حقيقة واحدة هي أن الترجمة بالنسبة إليه ليست نزوة عابرة ، ولكنها إسهام في إثراء حقلنا الثقافي والمعرفي بجليل الأعمال وطليعيها . ويتجلى ذلك في اختياره الأعمال ـ الأصول في حقل الدراسات الأدبية التي لايتم الالتفات إليها عادة . وحين يكون ذلك نجده يتحقق انطلاقا من بضعة مقالات متفاوتة القيمة والأهمية . إن الذهاب إلى الأصول وأمهات الدراسات يفرض على المترجم أن يكون متسلحا بتصور متكامل عن العمل وخصوصيته وما يمثله في الحقل الذي ينتمي إليه . ويبدو لي ، أن ذلك يتجسد بصورة واضحة في ترجمات محمد معتصم ، فهو يسلك ، أبدا ، الطريق الصعب في اختيار الأعمال ، وفي الاشتغال بها . وإذا كان المترجمون عادة يكتفون بنقل العمل من لغة إلى أخرى ، (والعديد من الكتب المترجمة إلى العربية لانجدها للأسف تتضمن أحيانا حتى العنوان الأصلي للكتاب المترجم واسم صاحبه بحروف لاتينية ) فإننا نجد محمد معتصم يتجشم عناء تدقيق المصطلحات ، وتمحيص مختلف المواد التي تستدعي البحث ، والتي بدون ذلك يستحيل الفهم ، وإضاءتها بإضافة هوامش مختلفة تبين بالملموس أنه لم يقف عند حدود عملية التعريب باعتبارهامترجما ، ولكنه علاوة على ذلك يشتغل كباحث ، وهذه هي ميزته الأساسية التي تضفي على ترجماته طابعا علميا خاصا ، مفيدا وغنيا (2) .
1. 4 . إن الترجمة العلمية لاتختلف عن البحث أو الدراسة . إنها تتجاوز حد حل المعضلات اللغوية، التركيبية والأسلوبية والمعجمية ، التي تعترض المترجم عادة ، ويعمل جاهدا على تذليلها ليتمكن من نقل العمل من لغة إلى أخرى . إنها تعمل إلى جانب ذلك على حل المعضلات المعرفية والنظرية التي يصطدم بها المشتغل بالأعمال ذات الطبيعة النظرية والتطبيقية . هذه المعضلات تتصل بالمادة المعرفية التي يحتويها الكتاب موضوع الترجمة . وهي تنتمي إلى مرجعية ثقافية وتاريخية خاصة يستحيل فهمها عن طريق نقلها من لغة إلى لغة . وهنا يتدخل الباحث للكشف عن دلالاتها وأبعادها في ثقافتها التي ترتبط بها . وما قلناه عن المادة المعرفية ، يمكن تعميمه على الجوانب النظرية والمنهجية وغيرها . وكلما كان المترجم مرتبطا بالمجال الذي يترجم منه ، أمكنه التعرف على دقائق القضايا ، وخصوصيات المشاكل التي تعترض الترجمات العربية التي ما يزال يضطلع بها من يرى نفسه مؤهلا لها بحكم معرفته باللغتين الأصل والهدف .
إن خصوصية عمل معتصم تكمن في إحساسه بهذه المشاكل ومحاولته الدائمة لتجاوزها عن طريق البحث المستمر والمتواصل . وطبيعي أن تعترض أي مترجم صعوبات جمة يستحيل تجاوزها بدون العمل الجماعي ، والحوار الهادف بين المشتغلين بالمجال نفسه .
2 . 1 . في هذا النطاق ، أود انتهاز فرصة تقديم هذا الكتاب الهام في تاريخ السرديات في الغرب لتجسيد بعض القضايا التي تشغل اهتماماتنا الفكرية السردية ، وما تولَّد عنها من ردود أفعال في ساحتنا العربية ، درءا لالتباسات شتى ، وتحفيزا للتفكير ، ودفعا لطرح المزيد من الأسئلة التي يمكن أن تساهم في إنضاج الحوار ، وبلورة الفكر السردي العربي . تتعدد القضايا التي يمكن الخوض فيها في هذا المضمار ، وسأكتفي بطرح قضيتيتن اثنتين حتى لا أفوت على القارئ والباحث فرصة الذهاب إلى عالم هذا الكتاب واكتشاف أهم أطروحاته ، والوقوف على ملامحه ورؤياته .
2 . 2 . 1 . القضية الأولى : تتمثل هذه القضية في ضرورة الإيمان بالعلم ، والوعي به . إن السرديات ، باعتبارها علما سرديا ، تسعى إلى الإحاطة بمختلف جوانب السرد من حيث هو خطاب له خصوصيته وبنياته التي تميزه عن غيره من مكونات العمل الحكائي . ومعنى ذلك أن هناك اتجاهات ونظريات عديدة في تحليل السرد ، وليست السرديات سوى واحدة من تلك الاختصاصات . وكي يكون حديثنا عن السرديات ملائما ، ودقيقا ، ينبغي وضع السرديات في نطاق حدودها النظرية والعملية ، والاشتغال بها بدون أي تعميم أو خلط مع غيرها من النظريات والعلوم السردية أو الحكائية المختلفة .
إن أخذ هذه القضية بعين الاعتبار يعني ، ضمن ما يعني ، التعامل مع السرديات وفق هذا المنظور ، وأي انفتاح على اجتهادات سردية أخرى أو مغايرة من إطارات أخرى ، لابد أن يتأسس على ملاءمة علمية ومنهجية محددة . ومضمون هذا أن فكرنا السردي العربي في حاجة إلى أن يتأسس ويتبلور . ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا باعتماد إطارات نظرية ( سواء كانت السرديات أو غيرها) محددة وصارمة . وأي اجتهاد أو انفتاح فينبغي أن يتم من داخل الإطار النظري والمنهجي المحدد . وبتسجيلنا لهذه القضية نروم التأكيد على أن الخلط بين الإطارات النظرية والاجتهادات المختلفة في تحليل السرد العربي قديمه وحديثه لا يمكن إلا أن يجعلنا بُعداء عن تشكيل تصورات علمية دقيقة ، قابلة للتطوير والاجتهاد .
لايمكن للخلط السائد لدينا إلا أن يجعلنا أبدا ننتظر ما يتولد من نظريات واجتهادات في الغرب، لنعمل على تطبيقها واستعمالها في تحليلاتنا على السرد العربي . وهذه العملية نقوم بها منذ بدايات اتصالنا بالنظريات الأدبية الغربية المختلفة منذ ما عرف بعصر النهضة . لكن الوعي بضرورة تأسيس تصورات سردية خاصة ، يُمكِّنُنا من استيعاب التصورات الموجودة بدقة ، وتمثلها وفق قواعدها وأصولها ، ويدفعنا هذا إلى الاجتهاد في نطاقها ، والعمل على تطويرها بالانطلاق مما يقدمه لنا السرد العربي . وبذلك يمكن للفكر السردي العربي أن يتجاوز حدود التأثر الدائم والمتواصل أبدا إلى الإسهام والتأثير ، وينقلنا من وضع الاستقبال إلى الإنتاج . وهذا طموح مافتئ الحديث عنه متواصلا ( عندنا نحن العرب ) لكن تحقيقه ما يزال بعيدا لأسباب لانود الخوض فيها .
2 . 2 .2 . القضية الثانية : أما القضية الثانية فنتبينها مما يقدمه لنا هذا الكتاب نفسه . إنه يتأسس على قاعدة الحوار مع اجتهادات وانتقادات وجهت إلى الكتاب الأصل ( 1972) . ويبرز لنا هذا بجلاء أن السرديات ، باعتبارها علما ، لا يمكن نسبتها إلى فرنسا موطن جيرار جنيت ، ونتحدث تبعا لذلك عن ” سرديات فرنسية ” وأخرى بريطانية أو أمريكية ،،، إنها اختصاص ذو بعد إنساني ، يساهم فيه الجميع بغض النظر عن جنسياتهم وألوانهم أو لغاتهم . ويؤكد جيرار جنيت ذلك في مقدمة كتابه هذا حين يبين تزايد الاهتمام والاشتغال بالسرديات في أقطار عديدة يذكر من بينها إسرائيل . هذا في الوقت الذي مانزال نحن نتناقش هل من الضروري أن نستفيد من النظريات الغربية أم أن علينا أن نقدم نظرية سردية عربية ؟ ومن أين لنا أن نقدم نظرية أو علما سرديا عربيا ونحن لانؤمن بالنظري ولا بالعلمي ؟! … ومن أين لنا بتأسيس كل ذلك إذا لم نتفاعل مع النظريات التي سبقتنا في هذا المجال أو ذاك ؟ بل الأدهى من ذلك أنى لنا أن نتوصل إلى اقتراح نظريات ، ونحن لانعتقد بضرورة التفاعل مع الأعمال النظرية ؟! …
أسئلة كثيرة تفرض نفسها بصدد الوعي النقدي الذي ما يزال يتحكم في رؤيتنا للأشياء وطرق تقييمنا لها. هذا الوعي الذي يرفض التطور، والتغير ، ويدعو إلى “المستحيل ” وهو تقديم نظرية عربية من العدم !!… لا نريد الإطالة في طرح الأسئلة التي يفرضها علينا ما تمور به ساحتنا النقدية من آراء وتصورات تعوق التحول والتطور . وبصدد القضية الثانية التي نود إثارتها انطلاقا مما يقدمه لنا هذا الكتاب الهام نرى أنها تكمن في فكرة مفادها أن تطوير النظرية السردية لايمكن أن يتحقق إلا بالتفاعل الإيجابي مع المنجزات السابقة والتحاور معها من منظور دينامي يرتهن إلى الاستيعاب الدقيق للإنجازات المختلفة . نلاحظ ذلك بجلاء في الإضافات التي قدمها كل الذين ناقشوا جيرار جنيت بحيوية وروح نقدية عالية . ونلاحظ ذلك أيضا في ردود جنيت التي يتضمنها هذا الكتاب . إن أهم ما نستفيده من هذا الحوار هو أن السرديات مجال خصب للإبداع والتطوير . وأن مفتاح ذلك لا يتجلى في المزايدات والمساجلات الخاوية ، ولكن في الاستيعاب الحي ، والمواكبة الدائمة لمختلف المستجدات في هذا المضمار من جهة ، وفي الإنصات الصادق للنص من جهة ثانية ..
2 . 3 . هذا هو الدرس الأساس الذي يمكن أن نخرج به من خلال تأملنا في هذا الكتاب وفي ما يطرحه من قضايا تلهب الحس النقدي ، وتدعو إليه . وحين نلح في هذا التقديم على هاتين القضيتين نود لفت الانتباه إلى أن النظريات الغربية ليست ” مقدسات ” علينا أن نسلم بها ، ونكتفي بتجريبها أو تطبيقها على نصوصنا .
إن حقيقة ما نرمي إليه تكمن في التسليم بأن تحصيل المعرفة أساسي وضروري للتطور . ووراء هذا التحصيل لابد من المساهمة في النقاش، والحوار، للانتقال من الاستهلاك إلى الإنتاج . ودون تحقيق ذلك ، لابد من الإيمان بالعلم ، والمواكبة الدائمة ، والاستيعاب الجيد لمختلف التصورات ، ومحاورتها بناء على معرفة بجزئياتها وتفاصيلها . وبدون ذلك ، مرة أخرى ، يمكننا أن ننتصر للنظريات الغربية ، كما يمكننا أن نهاجمها أو نصارع من يحاول الاستفادة منها سيان ، لأننا في الحالين معا نقف ضد التطور الطبيعي لما هو ممكن التحقيق إذا ما نحن وفرنا له الشروط الذاتية والثقافية الملائمة .
لنقرأ هذا الكتاب ، ولنتأمل طريقة الحوار المبدع ، ولنتعلم منه أن السرديات ليست حكرا على أحد ، وأن الإبداع يبقى ، والسجال العقيم، والاستهلاك الأبدي وإن داما طويلا ، فهما جعجعة ولا طحين …
———- سعيد يقطين
- ج. جنيت ، خطاب الحكاية ، ترجمة محمد معتصم وعبد الجليل الأزدي وعمر حلي ، مطبعة النجاح الجديدة ، الدار البيضاء ، 1996
2. أشير هنا إلى ترجمته لكتاب م. ريفاتير ” دلائلية الشعر ” ، سلسلة نصوص وأعمال مترجمة رقم 7، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية ، الرباط ، 1997، 590ص.