محمد مومر
تقديم : سعيد يقطين
1 . تقديم :
يستوقفنا على غلاف هذا الكتاب مُناصَّان اثنان :”سيرة ذاتية” و”زجل”. وإذا كانت السيرة الذاتية نوعا سرديا معروفا يقدم عادة بشكل نثري. فإن كلمة” زجل” حين تأتي مقرونة بسيرة ذاتية أو مصاحبة لها تطرح علينا أسئلة مثل :كيف ستقدم سيرة ذاتية زجلية؟ ويستدعي الجواب عن هذا السؤال استحضار تجربة الأنواع الأدبية كما مورست ، والنظر في العلاقات الممكنة بينها لإقامة جسور بينها ، وتقديم تفسير لقرن السيرة الذاتية بالزجل في “سلسول التخمام ” للشاعر الزجال محمد مومر.
2 . الزجل والشعر:
2. 1 . الزجل الشفوي :
في التعريف الجاري ، يعتبر الزجل شعرا عاميا ، أي معبر عنه بإحدى اللغات العامية أو الدارجة ، تمييزا له عن الفصحى.وإذا كان هذا اللون التعبيري قديما وله جذور في الثقافة المغربية ، فإن له ، بسبب ذلك ، تقاليده وقواعده وأنواعه. وهو لا يختلف عن ” الشعر الفصيح ” بواسطة اللغة الموظفة في التعبير ،فقط. إذ علاوة على اللغة نجد اختلافات على مستوى الموضوعات والقضايا والأساليب والأوزان والإيقاعات… فهو أقرب إلى الحياة اليومية بزخمها ومشاكلها التي ينبري لها الشاعر الشعبي عن طريق تجسيده إياها بلغة التداول اليومي بفجاجتها وعنفها وبمسحة فنية تكسب هذا التعبير خصوصيته وتأثيره في النفوس. وهذا ما جعل الزجل متصلا اتصالا وثيقا بالثقافة الشعبية لأنه ، وهذه إحدى خصوصياته ، ظل فنا شفويا ، يبدعه الشاعر ، ويتناقل من شفة إلى أذن ،،، إلى أن يجد من يؤديه بواسطة الغناء (كما نجد مع الشاعر محمد ولد قربال المذكوري الذي كان يطبع قصائده الزجلية ويؤديه مغنون شعبيون مثل قرزز ومحراش ” قصة الضحية مثلا”) ، أو يجد من يدونه في حقبة لاحقة ، ويصبح قابلا للقراءة.
2 . 2 . الزجل الكتابي:
لكن الزجل الحديث الذي ظهر في الثقافة المغربية ، منذ السبعينيات من القرن الماضي ، فيمكننا تقسيمه قسمين كبيرين : قسم كتب ليغنى ، ونجد في أزجال الشاعر الطيب لعلج نموذجا لذلك. وقسم ألف ليقرأ ، ونقدم دواوين أحمد لمسيح مثالا لهذا النوع. ولقد كثر الزجالون من هذه الطينة .
إن الزجل الذي كتب ليقرأ ، ليس فيه من الزجل غير اللغة التي كتب بها. إنها إحدى اللغات العامية التي يزخر بها المغرب ، والتي تغتني بالتجربة الخاصة التي تمنحها المناطق التي تضمها وتستعمل فيها خصوصيتها وملامحها المميزة. أما ما عدا ذلك ، ونقصد العوالم الشعرية التي تقدمها النصوص ، فهي أقرب ما تكون إلى “الشعر الفصيح”. لهذا الاعتبار نجد هذا الشعر ـ الزجل ، يقع في منطقة وسطى ، فلا هو شعبي ، بالمعنى المتعارف عليه ( البعد الشفوي ـ قبول اللحن والأداء الموسيقي ). ولا هو شعر بالصفة المعروفة لدى المشتغلين بالشعر المكتوب باللغة الفصحى وفق تقاليد الشعر العربي قديمها ومحدثها. وهنا مربط الفرس: صعوبة هذه التجربة لدى المتلقي والشاعر معا. هل هو شاعر فيلحق بركب الشعراء ، أو زجال فيضاف إلى قائمة الزجالين؟ ويطرح الإشكال نفسه على “القارئ” : هل يقرؤه بعين القارئ ؟ أم بأذن السامع؟ إن الشاعر ـ الزجال متى نجح في التوفيق ، أمام هذه المعادلة الصعبة ، كان شاعرا زجالا ، وإلا عد شاعرا “ينطق” بالعامية، أو زجالا ” يكتب ” بها. وتلك هي المعضلة.
تبدو لنا هذه ” المعضلة ” في “ازدواج ” ( وهي الصفة التي تطبع هذه التجربة التي صار لها ممارسوها ، ولقاءات تعقد بصددها ) هذه التجربة.يبدو لنا هذا الازدواج على مستويات عديدة : هل نحن أمام ديوان “زجلي ” يضم ” قصائد” ، أو ديوانا يستوعب ” مقاطع ” أو ” مقطعات” ؟ هل “القصيدة” في الزجل على نمط ” القصيدة ” الشعبية ببنائها الخاص الذي نجده مثلا في قصائد الملحون أو وفق “القصيدة ” الشعبية كما نجدها لدى ولد قربال المذكوري ، أو لدى قشبال وزروال ؟ أم أنها قصيدة تشبه “قصيدة شعر التفعيلة ” أو “قصيدة النثر”؟ أم أنها مزيج من كل هذا؟
لا نجد ، فيما بين أيدينا من نصوص زجلية ، “قصيدة ” واحدة ، ولا مقطعات على شاكلة ما نجد في العروبيات أو الرباعيات. إن الشاعر الزجال المغربي، يكتب بالعامية ” قصيدة ” أقرب إلى “قصيدة التفعيلة ” أو “قصيدة النثر”. لذلك نجد لكل شاعر تجربته الخاصة ، وعوالمه المتميزة.ولهذا السبب نجد تفاوتات في التجربة ، واختلافات بينها. ولعله لهذا الاعتبار يصعب على الدارس الإمساك ب” قواعد ” أو” قوانين ” تحكم هذه التجربة وتحدد مميزاتها وخصائصها في ضوء ما تراكم من تجارب. قد يجانب هذا الحكم الصواب في غياب دراسة عميقة ومتأنية لهذه التجربة الشعرية . غير أن الانطباع الذي تكون لدي من خلال مواكبة عجلى ، لأن الوقت لم يسمح لي بالانكباب عليها بدراسة عميقة ، وهي تستأهل ذلك ، جعلني أسجل هذه الملاحظة ، وأنا مستعد للتخلي عنها ، في أي وقت ، متى ثبت العكس.
3. سلسول التخمام :
تجربة محمد مومر في سلسول التخمام تجربة متميزة ، ففيها نجد الشعر بما هو حديث الروح ومراودة للكلمة الجميلة من أجل التعبير عن دواخل الذات. وهي في الوقت نفسه تستمد من الزجل كل مقوماته اللغوية وعوالمه الخاصة. فإذا هي شعر زجل ، يمكن أن نتعامل معه بعين القارئ وأذن السامع. لقد وفر لقصيدته الطويلة حلقات تترابط ليشكل كل منها حلقة لها بناؤها وبنيتها ، لكنها تتضافر مع غيرها لتشكيل عالم متكامل : هو عالم “السيرة الذاتية ” ، بما هي “تسجيل ” لرؤيات ومواقف وتمثلات من الواقع في مختلف تحولاته وآثار كل ذلك على الذات.
يبدو لنا ذلك بجلاء في عنوان الديوان ـ القصيدة ـ السيرة الذاتية . فالسلسول هو ” العمود الفقري” للكائن الحي ( الحيواني ) . وحين يتكون هذا “السلسول” ( ولننتبه إلى جمال ودقة التعبير الدارج ) من “سلسلة” من الفقرات تترابط وتتكامل لتشكيل ” بناء ” الهيكل العام للجسم ، نجد أن كل “فقرة ” من الفقرات التي يتكون منها تحتل موقعها المخصص لها ، وهي “مستقلة “بذاتها لكن لا وجود ولا أثر لها بدون غيرها. ولقد وفق الشاعر الزجال في ترجمة معمار “السلسول” على أجزاء قصيدته ـ ديوانه ـ سيرته الذاتية ، فجعل بنيات نصه موزعة على ثلاث وثلاثين ” بنية ” ـ فقرة . وكل فقرة لها ” اسم ” دال (عنوان) ، يوهم بأنها بنية مستقلة بذاتها ، ولكنها ” تفتقر” ( فقرة ) إلى غيرها ، إذ بترابطها مع غيرها من الفقرات والبنيات “تغتني ” بما يجعل منها “عالما ” معماريا متكامل العناصر والمكونات المتسلسلة وفق نظام وترتيب خاص.
حين يربط الشاعر الزجال السلسول ب” التخمام ” يضعنا أمام بنية عالمه الشعري الذي يمتح من واقع الحزن والألم . وهو في كل فقراته هذا السلسول يضعنا أمام مرارة الفقدان واستشعار تحول الزمان .
يقول الشاعر الشعبي :
ـ ” أنا حليت الشرجم
بان لي الخليل ،
غادي ويخمم ” .
ويقول المثل المغربي : ” ماية تخميمة وتخميمة ، ولا ضربة بالمقص”.
التخمام ، التخمم ، التخميمة : بدء الكلمة بالخاء وتكرار الميم له دلالة خاصة توحي إلى التأزم والانغلاق على الذات من أجل ” البحث ” عن حد للوضع المأساوي الذي يوجد فيه الشخص. إذا كان “التفكير” متصلا بالتنظيم في ترتيب القضايا والمشاكل ، فإن ” التخمام ” يظل متصلا بالحالة النفسية المضطربة ، والعاجزة عن تنظيمها والنظر فيها من منظور العقل . لا نفاجأ في اختيار محمد مومر الشعر للتعبير عن ” التخمام ” والعمل على ” سلسلته ” ل”تنظيم ” كل مكوناته وقد انتظمت في أثر ” سلسول التخمام ” ، فجاء ” سيرة ذاتية ” شعرية زجلية ، لا تتأطر في نطاق الزمن المتسلسل ( من لحظة الميلاد إلى الآن) ، ولكنها فلتات تعبيرية تأتي للبوح وقتما توفرت ضروراته ، فيبدأ بالحاضر ، ويعود إلى الماضي ، وهكذا نجد ما يجمع هذه الفقرات انتظامها في سلسلة قائمة على الاستطراد وعدم الترتيب : التخمام .
سلسلول التخمام تجربة شعرية زجلية صيغت بلغة شعبية قوية ، وجاءت عوالمها مطابقة للغتها ، وسيجد القارئ والسامع فيها عوالم الطفولة والرجولة ، البادية والمدينة ، المعيش والمتذكر ، الماضي والحاضر . إنه عمل بذل الشاعر الزجال فيه جهدا كبيرا ،فجاء صياغة دقيقة للحلم وللبوح وتعبيرا عن تجربة ذاتية فردية وجماعية في آن .وتلك بعض من مقومات الشعر الحقيقي.
سعيد يقطين
صدر النص الزجلي لمحمد مومر عن الوراقة والمطبعة الوطنية، مراكش، 2010