كم نحتاج من الصمت كي نتأمل ؟ وكم نحتاج من التأمل كي ندرك وجودنا ؟ وكم نحتاج من الرؤى كي نكتشف كنه أسرارنا ؟ وكم نحتاج من الكشف كي نعرف ذاتنا ؟ هكذا يتشاكل السؤال بالسؤال ، لتأويل الغائب بالحاضر والحاضر بالغائب . وإذا كان الكائن نصا مجهولا ، لم تدرك بعدُ تأويلاتُه ، فإن النص كائن مشغول بذاته قدر انشغاله بالعالم ينهض من مجهول الكائن وعتمة أسراره . وكما هو الإبداع سيرة لذات الكائن ، بتفاعله مع كونه الإشكالي وإشكالياته الكونية ، فإن الكتابة إبداعية كانت أم نقدية لا تعدو كونها مسارا ضمن هذا التأويل للذات . وبالتالي تصبح الكتابة على إطلاقها محاولات لفهم الذات في العالم وفهم العالم في الذات ، وهنا ينهض الوعي المتشكل بالكشف المعرفي من أجل تأويلاتنا المستقبلية .
هكذا تتشكل الرؤى النقدية التي تنهض من وعي تشكله المعرفة ، ويحركه الإبداع ، ويشكله التأمل العميق بالوجود كنص وبالنص كوجود . لا أدري هل ما تقدم تأمل للذات في أتون الكلمة ؟ أم تأمل للكلمة في أتون الذات ؟ أم تأمل لجدل الوجود؟ كل ذلك قابل للتأويل والاحتمال عندما تكون الكتابة عن ناقد يبحث ومازال عن فلسفته الخاصة في النقد، وفي فهم النص ، ليكشف عن الفلسفة الخاصة في المنتج الإبداعي من خلال جهد معرفي يحرس نظريته وعطاءه ووجوده .
فقد تحول بالنقد إلى حالة إبداعية تتشاكل مع النص لتبدع نصها ، وكأنما النقد لديه لحظة إشراق نصية، لا تستعين بالمألوف لتأتلف بالمكرور والعادي والمنجز ، وإنما تنجلي بالمتشاكل لأنها تنطلق من حالة الجدل الأبدية بين الوجود والكائن وبين الكائن وظله النصي ، وبين النص وظله المعرفي . فمن يقرأ د . سعيد يقطين يدرك هذه القيمة العظيمة التي تتجلى في مشروعه النقدي هذا المشروع الذي امتاز من غيره بالعمق الكشفي الذي يقود إلى التفكيك ، والتركيب ، وإعادة الإنتاج ، فالنقد لديه حالة تجل على النص من خلال النص ، وحالة توحد بين الذات الناقدة والذات المبدعة ( الساردة ) لأنه بدون هذا التوحد وهذا الوجد النقدي لا ينكشف السر الإبداعي الذي يسعى د . سعيد يقطين إلى كشفه .
وهذا الكشف لا يتجلى إلا من خلال ممارسة علمية لدراسة الأدب وذلك للكشف عن المزيد المزيد من الخفايا النصية والإبداعية لتأسيس نظرية نقدية عربية جادة، في زمن أصبح النقد فيه رحلة سياحية حول النص أو تأويلا للأيديولوجي المقلق للنص ، ليتجه د . يقطين بالنقد إلى السر الجمالي وإلى البيويطيقيا كنظرية عامة للخطاب الأدبي ( السردي ) مؤكدا على ضرورة دراسة الأدب دراسة علمية لأننا بأمس الحاجة إلى ذلك ،وهنا يكمن سر القول بأنه ناقد يحرسه جهده المعرفي وانفتاح هذا الجهد على الثقافات المختلفة. ولعل هذه الرؤية النقدية وهذا السعي الحثيث إلى تشكيل هذا الحلم النقدي العربي هو الذي جعل من الدكتور يقطين أحد أبرز النقاد العرب في تعاطيه مع النص الإبداعي السردي ، ليدفع بمزيد من الجرأة عبر حوار صريح وموضوعي عجلة النقد العربي إلى الأمام . لذلك فهو ينجز مشروعه النقدي على خلفية السؤال والسؤال مفتاح المعرفة ، لاستبصار كوامن النص مغادرا الدراسات السوسيولوجية التبسيطية والمضمونية التي هيمنت طويلا في مضمار النقد الأدبي العربي كما يقول لينطلق إلى انجاز هذا المشروع عبر تساؤلات في كنه النص ليندرج تحليله النصي ضمن ما يسميه بالسوسيوسرديات
فآن لنقدنا الروائي والأدبي كما يرى يقطين أن يضطلع بمهامه في تطوير قراءتنا ووعينا بالذات والموضوع في سياقاته الثابتة والمتحولة وذلك لا يمكن أن يكون إلا عن طريق الحوار المؤسس لجدل الفعل والمتفاعل لا الانفعال والبكاء على الطلل المحيل البائد » . ولابد من القول في النهاية إن هذه الشهادة لن تستطيع أن تحيط بالمعطى النقدي للدكتور يقطين وإنما هي بطاقة تؤول تقديرنا لهذا الناقد في جهده النقدي الذي رفدنا مبدعين ونقاد يرؤاه النقدية التي تتجلى في الكشف عن أقاصي النص في الذات ، وأقاصي الذات في النص ، لتصبح لغته النقدية بصمته . فهو من النقاد القلائل الذين نتلقف كتبهم ، بلهفة الباحث عن خصوصية الكشف والنقد وخصوصية الجرأة النقدية ، لأنه ناقد ممسوس بالإبداع ، ومأخوذ بالكشف ومحروس بالمعرفة .
د . بهيجة مصري إدلبي